حينما تعصف بشعبنا ظروف طارئة ونواجه مواقف مصيرية في حياتنا المعاصرة مرتبطة بسلسلة أحداث تاريخية دامية سابقة مرت بنا، تراودنا أفكار قاتمة وتلوح في الأفق تساؤلات حول معجزة بقاء المسيحيين على قيد الحياة ليومنا هذا بالرغم من المجازر التي إرتكبت بحقهم وحملات الأسلمة بالإكراه والتهجير والإضطهاد التي مُورست ضدهم والقوانين الظالمة التي طُبقت عليهم خلال العهود الماضية، فنحاول أن نبحث عن مصدر تلك القوة الكامنة في نفوس أسلافنا والتي جعلتهم يواصلون مسيرتهم ويتغلبون على تحديات انقراضهم رغم المأسي ونزيف الجراح …!
بدأت أتصفح أحداث الماضي محاولاً إكتشاف سر ذلك الشعاع الذي يربطنا بهم ويجعلنا نكمل تلك المسيرة المضنية لنؤكد وجودنا ونفتخر برموزنا المقدسة ونذهب إلى كنائسنا ونقيم طقوسنا الدينية ونُديم لغتنا وتراثنا وتقاليدنا وعاداتنا، ولكني كنت أجد مسارات متعددة تُفضي إلى ذات الهدف.
فجأة تجلى الجواب في مسيحيي الموصل الذين أماطوا اللثام عنه حينما شاهدهم العالم كله يواجهون المخاطر بإرادة ثابتة وعزم لا يلين، منطلقين من إيمانهم الراسخ بعقيدتهم وعدالة قضيتهم، فضحَّوا بممتلكاتهم وجهد وعرق سنين أعمارهم ومقتنياتهم الشخصية ورغيف يومهم وحتى بأدوية كبارالسن منهم، من أجل أن يبقى المسيح ينير لهم دروب الخير والمحبة والسلام في حياتهم، رحلوا عن ديارهم وساروا على طريق الألام وهم يرددون: “ماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”، بينما يحاصرهم رجال قساة تخلواعن أدميتهم فإستوطنت فيهم أرواح شريرة. وهكذا ربحت تلك العوائل المسالمة الطيبة أنفسها وحياتها الأبدية وخسرت قشور هذا الدنيا .
كانت ملحمة إيمانية سيخلدها تاريخ شعبنا على صفحاته بأحرف من دماء شهدائه وأبنائه وهم مجردون من كل شيء بإستثناء سلاح الحق الذي جعلهم في مواجهة غير متكافئة مع عصابات مارقة إغتصبت مدينتهم وسلطت سيفها المخضب بالدماء على رقابهم، وهو ذات السيف الذي كان يطارد أباءهم وأجدادهم المسيحيين الأوائل لإقتلاع جوهر حياتهم وإطفاء سراج النورالذي كانوا يحملوه لخلاص البشرية .
ينبغي علينا أن نقف جميعاً أمام أؤلائك المهجَّرين البسطاء في حياتهم والكبار في أفعالهم، ونرفع قبعاتنا وننحني أمامهم إلى أقصى ما نستطيع، وننتظر أن يمدوا أياديهم ويسمحوا لنا بالوقوف وتقبيل جباههم .
ولكن ما يؤلمنا ويحز في نفوسنا هو الصمت المُحير الذي إتسم به موقف أبناء الحدباء النجباء، والمثقفين الأصلاء والضباط الأحرار وأصحاب النخوة والغيرة الموصلية، ووجوه مجتمعها العريق وأبناء العوائل المعروفة من : ال الياور والجادر والجومرد وريكان وأمين إغوان وتوحَّلة وكشمولة والصابونجي والجليلي والبكري والجلبي والعاني والعمري والمفتي وكثيرة غيرها، وعشائرها العربية المعروفة بالشهامة والرجولة… لما حل بمدينتهم وشركائهم في الوطن الذين تجمعهم صلات العيش المشترك ووشائج إجتماعية وروابط تاريخية وجيرة مناطقية وعلاقات الأخوة والمصير الواحد، والذين شاركوهم في معاناتهم مع الغزاة الطامعين عبر العصور الماضية.
وقفنا بذهول ونحن نتابع أخبار تلك النكسة الوطنية والغزوة الهمجية لقلب العراق النابض، مدينة التأخي والثقافة والعلم ، من أجل تمزيق نسيجها الإجتماعي المميز ومكوناتها القومية والدينية والمذهبية المتجانسة، وتدمير تراثها ومعالمها الحضارية والإنسانية. وهالنا ونحن نشاهد مخلوقات جائعة تتجول بحُرية بحثاً عن فرائسها، تصدرأوامر وفتاوي مشينة وترتكب جرائم بشعة دون أن يثير كل ذلك غضبهم ويحرك مشاعرهم العراقية الأصيلة ويستفز غيرتهم وشهامتهم التي تُضرب بها الامثال .
كانت دهشتنا لا تُوصف ونحن نشاهد داعش تغتصب حرية الموصليين الشرفاء وتنتهك كرامتهم وتعيد دوران عجلة التطور في مدينتهم إلى الوراء، دون ردة فعل غاضبة، أو محاولة لوضع العصا في أركانها، وأضعف الإيمان محاولة تجفيف منابع دعمها وتنوير حواضنها حول المخاطر التي ستحل بهم، والأنكى من ذلك قيام البعض بدعم والدفاع عن أولائك الأغراب وشٌذاذ الأفاق الذين إستباحوا 45 أبرشية ودير وكنيسة تاريخية بعضها بعمر 1500 عام، وحطموا الصلبان وداسوا على المقدسات، ثم طردوا المسيحيين من منازلهم بعدما فرضوا عليهم شروط ظالمة لإذلالهم وإهانة حضارتهم المتوغلة في أعماق التاريخ .
وكيف سمحوا لهم بتدمير المواقع الحضارية والأثارالتاريخية وهدم الجوامع والحسينيات ومراقد وأضرحة الأنبياء وحتى تماثيل ونصب رموز وطنية وفنية وتراثية وإنسانية لمدينتهم، وإستهداف وقتل وتهجير بقية المكونات المسالمة ! وكيف وقفوا يشاهدون الأفغاني والشيشاني والباكستاني والعربي المتسربل وحتى الغربي المنحرف، وهو يقتل ويجلد وينحر رقاب ويقطع رؤوس أبناء وطنهم ويمثل بها، ثم يريد أن ينتزع شرف وكبرياء الموصليات العفيفات، وهم راضون أو صامتون..!
هل كان سببه الخشية من ذات المصير أم قطع صلة الرحم بالصديق والجار والقريب ؟ أم كانت حكمة التريث وإنتظار الفرصة المناسبة للإنقضاض عليهم في الوقت المناسب بعد إمتصاص الصدمة …؟
ومهما حدث نحن على ثقة تامة بأن أبناء نينوى الأصلاء المعروفين بشجاعتهم وبطولاتهم وإعتدادهم بأنفسهم ، سوف يهشمون جدار الصمت المريب ويُطيحون بمخططات الغزاة وينتفضون قريباً لإسترداد حرية مدينتهم وكرامة عوائلهم ومكانة عشائرهم المرموقة، ويعيدون الوجه الحضاري المشرق لأم الربيعين التي إستباحها عميان عقيدة خرجوا من كهوف العصورالجاهلية المظلمة لتطبيق شريعتهم.
وأتمنى بإخلاص أن لا تترك هذه الكارثة أثارها السلبية الإجتماعية والثقافية والتنموية والمعيشية على مدينتنا العريقة بعد تحريرها من الأسر وعودة كافة المُهجَّرين إلى ديارهم ومنازلهم وأعمالهم، وعلى علاقاتها التاريخية مع بغداد، وأملي أن لا تستوطن ظلالها القاتمة طويلاً في نفوس أبنائها .
صباح دمّان : في 1/8/2014
من مواليد الموصل وضمن أول موجة هجرة جماعية عنها إلى بغداد بعد فشل حركة الشواف عام 1959.
أحسنت وبارك الله فيك أخي العزيز
السيد لؤي فرنسيس المحترم، أؤيد الاخوة اعلاه واريد اضافة شيء الا وهو ان منطقة سهل نينوى التي يكثر فيها المسيحيين…
الأعزاء أودا و فرج اسمرو المحترمين نعزيكم بوفاة المرحومة المغفور لها شقيقتكم إلى الأخدار السماوية، أسكنها الله فسيح جناته الرحمة…
الراحة الابدية اعطها يا رب و نورك الدائم فليشرق عليها. الله يرحم خلتي مكو الانسانة المحبة طيبة القلب. مثواها الجنة…
Beautiful celebration Congratulations! May God bless Oscar and bless his parents and all the family and relatives