“الكلدانيون” إسم علم أولا وقبل كل شىء/ بقلم: الأستاذ الدكتور دنحا طوبيا كوركيس
جامعة جدارا/ الأردن
رد متهكما على مقالي الموسوم: ” الكلدان والآشوريون: أخوة في الدم واللغة وعداء تأريخي متأصل” كاتب مغمور يقدم نفسه للعالم ككاتب وإعلامي آشوري ليضرب بذلك مثلا حيا عن نفسه في العداء الذي أشرت إليه. هذا الكاتب الذي يقول بأن آشور هو “الله” بالفم المليان في خطبته بمناسبة يوم الشهيد الآشوري يسخر من مؤلفي كتاب “تاريخ الفنون في كلدو وآشور” المنشور في القرن التاسع عشر (الذي اعتمدت على جزئه الأول في مقالي) فيقول عن هذين الكاتبين الفرنسيين بأنهما “نحاتان” و لا يعول على ما جاء في كتابهما. أقول لأخينا، الذي يتحدى بأن يكون هنالك ذكر للكلدان يسبق القرن التاسع قبل الميلاد، إذا كان النحات غير مؤهل ليكتب عن الفن بأنواعه، فمن يكتب يا ترى؟ والغريب في الأمر، أن صديق صباي وشبابي ما زال يشاطر أولئك الذي يتنكرون لشعب إسمه “الكلدانيون” ويصر على أنها صفة (أو نعت) ألصقت بمجموعة من البشر تزاول مهنة التنجيم والسحر والشعوذة. قلت لصاحبي في رسالة بعثتها له قبل أيام محاججا: بما أن هؤلاء البشر كانوا يعيشون في كنف الإمبراطورية الآشورية في فترات متقطعة، فإن من نعتوا بـ “الكلدان” في ذلك الزمان هم آشوريون إذن. وكتحصيل حاصل أيضا، يصرّ القوميون العرب على تسمية الكلدان بالعرب. ولكن، يا صاحبي، المضحك المبكي في هذه المعادلة، لو قبلنا بها وفق مفهوم الحاكم والمحكوم، هو أن العربي سيرحب بالكلداني تحت خيمته العربية حتى لو انحدر من قبيلة الخرسان أو الطرشان في حين أن أي آشوري سيلفظ الكلداني خارج خيمته القومية معنويا، على أقل تقدير، إذا قال له هذا “الكلداني” المغلوب على أمره بأنه ينتمي إلى الأمة الآشورية التي مارس أجداده “الكلدان” في ظلها يوما ما مهنة السحر والشعوذة والتنجيم. ودليلي في هذا الاستنتاج هو أن إعلاميي بني آشور يسخرون من كتاب بني كلدو اليوم على صفحات الشبكة الإلكترونية بسبب “مهنة” زاولها أجدادهم ويقال عنها “كلدنة” في دساتيرهم ولا يقبلون سوى بالتسمية الآشورية، أليس كذلك؟ وهنالك من يدعي العكس، أي أن الآشوريين كلدان وفق ما تيسر لهم من معلومات تاريخية متضاربة، وكلا الإدعائين غير صحيح، بطبيعة الحال.
وكرد على بطلان إدعاء صاحبي ومن يسايره في هذا المنحى، سأورد في مقالة اليوم أدلة لعلماء يشهد لهم التاريخ بالنزاهة على أن “الكلدان” إسم علم أولا وقبل كل شىء، إسم أطلق على شعب وأمة عريقة، كالآشوريين بالضبط، مستندا بذلك على ثلاثة مصادرأصحابها ليسوا بنحاتين هذه المرة كي أرضي غرور وغطرسة محاوري عله يحترم قلم الآخرين بشكل حضاري بعيدا عن التهكم والسخرية. مؤلف الكتاب الأول هو البريطاني آركيبولد هنري سايس (1845 – 1933) المعروف بمؤلفاته الرصينة، فهو بروفيسور (أستاذ) متمرس في الآشوريات من جامعة أوكسفورد (1891 – 1919). ومؤلف الكتاب الثاني طبيب جراح وجيولوجي، هو الباحث وليم فرانسيس أينزوورث الذي رافق البعثة الأثرية الإنكليزية في رحلة التنقيب إلى ضفاف الفرات في القرن التاسع عشر. أما مؤلف الكتاب الثالث، فهو من أهل الدار. إنه الأستاذ جورج ديفد مالك (1837 – 1909 ) الذي وافته المنية يوم 15/6/1909 إثر حادث مؤسف على الحدود الروسية/الأيرانية في طريق هربه مع إبنه نسطورس وإبنته سارة من مسقط رأسه في بلدة أورميا يوم 27/5/1909. جورج رجل دين ومبشر وباحث وأستاذ متمرس في تاريخ حضارات ولغات الشرق والفقيه في الشريعتين الإسلامية والمسيحية. كتب كتابه، الذي سرق من عمره خمسة عشر سنة حتى أنجزه، باللغة السريانية الحديثة بعد أن جال وصال في بابل ونينوى والهند وبلاد فارس وأوصى أبنه قبيل وفاته بضرورة طبع الكتاب الذي خطه بيده وبدمه وترجمته إلى لغات العالم. تـُرجم الكتاب إلى الفارسية والإنكليزية ولم يترجم إلى العربية بعد.
وقبل أن أوجز ما ورد في كتب سايس وأينزوورث ومالك عن الشعب الكلداني وبابل، لابد لي من توضيح مفردة رائجة، ألا وهي تسمية “الآشوريات”. من البديهي أن ننظر إلى هذه المفردة كناتج طبيعي لمجريات البحوث الميدانية ولا يمكن استبدالها بتسمية “الكلدانيات” التي يحاججني بها كاتبنا المغمور وينصحني متهكما بالابتعاد عن الدراسات التاريخية لأن جامعتي ليس فيها قسم للدراسات الآشورية. يا لسذاجة هذا الكاتب! ربما لا يعلم القارىء بأن معظم الدراسات الآثارية والتاريخية عن حضارات وادي الرافدين استندت على مقتنيات مكتبة آشور بانيبال بالدرجة الأولى فأصبحت التسمية الآشورية من المسلمات التي لا جدال فيها ولا يجوز التبجح بها من طرف واحد والانتقاص من قيمة الآخر الذي شارك أجداده فعليا في بناء حضارتي آشور وكلدو رغم العداء التاريخي على مستوى القيادات. كما لا يجوز للباحث الكلداني أو غيره أن يحتج على التسمية التي أضحت عرفا في الغرب بشكل خاص لأن الجزء الأعظم مما قيل في قومه محفوظ في هذه المكتبة التي هي إرث إنساني، وليس آشوري وحسب. وهذا لا يعني بأن التسمية تجعل من الكلداني أو العيلامي أو الكنعاني أو الفارسي أو الآرامي أو العربي دونت أخباره في تاريخ الحضارات القديمة آشوريا. إن الباحث يسعى وراء الحقيقة أينما وجدت.
يعتمد كتاب سايس الذي نشر سبع مرات (راجع المصدر في ذيل الدراسة) على كتب تاريخية عديدة، أهمها كتابات بيروسز (بيروسوس)، الراهب والفلكي والمؤرخ الكلداني الذي قيل بأنه ولد في القرن الرابع ق. م. عندما احتل اسكندر المقدوني بلاد بابل في ربيع سنة 323 ق. م. وإن كان سايس يحاجج بيروسز في بعض التفاصيل، إلا أنه يؤكد على مكانتة التاريخية، خاصة إذا علمنا أن بيروسز كان أمينا لمكتبة الإله مردوخ، أي ما معناه: “وشهد شاهد من أهلها” أو كما يقال: “أهل مكة أدرى بشعابها”. دعونا نرى ماذا يقول البروفيسور سايس حول هوية الكلدان.
يقول سايس (ص 9) بأن بابل كانت مركزا لاستقطاب أقوام سامية من شتى الاصقاع، خاصة من صحراء النجد في الجزيرة العربية، وامتزجت بالثقافة السومرية. وبالمثل، كانت “كلدة” الواقعة في منطقة الأهوار على نهر الفرات التي أشتق منها أسم “الكلدان” جغرافيا ثم توسع استخدامه فشمل سكان بابل برمتها وأصبح “الكلدانيون” جزءا حيويا من الشعب بسبب حكم الأمير الكلداني ميروداخ بلادان لبلاد بابل، هذا الأمير الذي أضحى رمزا لحرية البابليين في صراعهم مع الآشوريين على سدة الحكم، الأمر الذي يدعونا إلى تبني النظرية القائلة بأن نبوخذنصر ينحدر من أصول كلدية. وهذا سبب كاف لأن يجعلنا أن نقر بأن التسمية الكلدانية لقوم أسمهم “الكلدانيون” موغلة في القدم. ويشاطره في هذا البروفيسور أينزوورث الذي يقول عن الكلدان بأنهم “أمة” ويقتبس سايس عن سترابو قوله بأن الكلدان كانوا فلاسفة وشعب مثقف امتلأت بهم طرقات ومعابد بابل ونينوى (أنظر المصدر في ذيل الدراسة).
ماذا يقول المرحوم جورج مالك عن الكلدان؟
كان يعبد الكلدانيون (البابليون الأوائل) الشمس في بداية الأمر، وتبعهم في ذلك الآشوريون من بعد. إتخذ الكلدانيون من بعل إلههم الأعظم من بين عدة آلهة. كان بعل على هيئة إنسان قبيح جدا بلباس آدمي وعلى رأسه تاج ذهبي بقرنين. وعلى غرار الكلدانيين، كان للآشوريين آلهة عدة، ولكنهم اتخذوا من آشور إلها جبارا. ويروي المؤلف بأن الألهين بعل وآشور تعاونا بطرق خبيثة على تسمية إثني عشر إلها دونهما رتبة وأوعزا إليهم القيام بوظائف محددة. فعلى سبيل المثال، كان الإله مردوخ مسؤولا عن الفلك وشؤونه والثقافة وقراءة الطالع، ونيبو حامي السماء، بينما كان أدر – شمدان بطل الحرب وداحر الأعداء في الوقت الذي كان الإله نركال رئيس أركان حرب ومشرفا عسكريا عاما، والحديث يطول عنهم وعن قائمة ملوك كل مملكة. ورغم تحكم الآلهة بالحياة العامة للشعب، إلا أن الكلدان والآشوريين على السواء كانوا يعتقدون بقوة خفية أعظم من آلهتهم تدير شؤونهم وتسيطر على حركة الكون.
يقول لنا صاحب الكتاب أن مملكة بابل أخرجت إلى الوجود بفضل الكلدانيين والبابليين الأوائل الذين شكلوا شعبا متجانسا، ولكن لم تنعم بابل بالسلام والاستقلالية التامة حتى تولي نبونصر العرش لأنها كانت خاضعة للدولة الآشورية التي فرضت الجزية على أهلها رغم محاولاتهم المتكررة لإزاحة الظلم المفروض عليهم. تمكن نبونصر أخيرا من تلبية نداء شعبه فكانت له الغلبة سنة 747 ق.م. حكم مملكة بابل عشرة ملوك كان آخرهم نبونيدوس الذي نصـّب إبنه بيلشصر وليا للعرش وراح يقاتل الفرس بعيدا عن بابل. إنتهز سايروس فرصة غياب نبونيدوس عن المدينة فوجـّه فيالقه نحو بابل وحاصرها لمدة سنتين وأسقطها فأصبحت رهينة الحكم الفارسي منذ سنة 538 ق. م.
وبعد سقوط بابل، بدأ إسم الكلدانيين بالإنحسار بسبب الموجات الآرامية المتلاحقة والمتسارعة وتأسيس دولة آرام وانتشار اللغة الآرامية عالميا فأضحت التسمية الآرامية بديلا عن الكلدانية أو مرادفا لها. إستمر هذا الوضع حتى فجر المسيحية وشيوع اللغة السريانية في المنطقة. ويروي لنا حسن بار (بن) بهلول (القرن العاشر الميلادي) بأن المسيحيين الأوائل كانوا يسمون بـ (الآراميين) ثم تبعتها التسمية الكلدانية مجددا واستقروا أخيرا على تسميتهم بالسريان. وهذا ما يؤكده جورج مالك الذي يقول بأن آبائنا السريان الأوائل أوضحوا بما لايقبل اللبس في كتاباتهم التاريخية أن الكلدان والآشوريين والسريان “أمة سريانية واحدة” أصولها آرامية، وإن اجتهد البعض في نسبهم إلى الآشورية خطئا، إذ يكفينا أن نقارن ما تيسر لنا من نقوش وكتابات وصور ولـُقى في آثار نينوى وبابل للإستدلال على ما ذهبنا إليه في أننا فعلا “أمة سريانية واحدة” بعيدا عن التلاعب بالألفاظ وتخريج قيم الحروف حسب الأهواء.
الأردن في 14/8/2010
Ainsworth, William Francis (2009 [1838]). Researches in Assyria, Babylonia and Chaldea; Forming Part of the Labors of the Euphrates Expedition. London: John W. Parker.
Malech, George David (2009 [1910]). History of the Syrian Nation and the Old Evangelical-Apostolic Church of the East: From Remote Antiquity to the Present Time. Whitefish, MT: Kessinger Publishing LLC.
Sayce, A. H. (2008 [1899]). Babylonians and Assyrians: Life and Customs. New York: Charles Scribner’s Sons.
أحسنت وبارك الله فيك أخي العزيز
السيد لؤي فرنسيس المحترم، أؤيد الاخوة اعلاه واريد اضافة شيء الا وهو ان منطقة سهل نينوى التي يكثر فيها المسيحيين…
الأعزاء أودا و فرج اسمرو المحترمين نعزيكم بوفاة المرحومة المغفور لها شقيقتكم إلى الأخدار السماوية، أسكنها الله فسيح جناته الرحمة…
الراحة الابدية اعطها يا رب و نورك الدائم فليشرق عليها. الله يرحم خلتي مكو الانسانة المحبة طيبة القلب. مثواها الجنة…
Beautiful celebration Congratulations! May God bless Oscar and bless his parents and all the family and relatives