القوش يا زهرة المدائن ومربض الأسود
عشق ابدي تربطني وشائجه مع حبيبة اسمها القوش وهي تربض كلبوة
امام جبلها العتيق على مسافة زمنية عمقها امتداد ابد الدهر .. وهي
تنتشلني مرغماً من اعماق اللاوعي لتضعني في احضان الواقع والحقيقة ،
ولكن يبقى هذا الواقع عاجزاً امام بوصلة الوجدان المتجهة دوماً نحو سبر
اغوار الذكريات الكائنة في ثنايا المواقف ووراء الأكمة وتداعيات الحوادث
المريرة والمفرحة ، وأوقات الضيق والفقر والشدائد والملمات وما اكثرها
وأوقات الرغد والفرح والمسرات وما اقلها ، لكن في المحصلة كانت ، وفق
مقياس الذكريات ، اوقاتاً تغمرها السعادة والمحبة والبساطة .
حين الكتابة عن القوش ، الكلمات تستبق ريشة قلمي لتسهم في تعبير عن
النسخة الجميلة المحملة بعبق التاريخ ونقاء الأصالة لهذه البلدة التاريخية
الجميلة ، إنها في هذا الفصل ( الربيع ) منتعشة متمايلة متراقصة ، المشهد
يسحرني ، والسعادة تغمر كياني إذ ان مخيلتي تنسج من هذه السنابل
المتمايلة بتناسق ورشاقة وكانها تعزف سمفونية الأزمان الغابرة وتحيي هذا
الأنسان المغترب والذي جاء ليعانقها ، فكانت ترقص له طرباً على انغام
النسائم القادمة من الأفق البعيد لتلامس اوتار قلبي ، هكذا كنت في لحظة
ما غارقاً في تأملاتي انا الأنسان الفاني الى جانب هذا الجبل الخالد والشاهد
على رقصة السنابل الأزلية ، اجل نحن نشكل فرقة سمفونية وشائجها الحب
والعشق الأبدي بين انسان اطلق عليه في القوش اسم (حبّا ) ومع مدينة
تاريخية اسمها القوش ومع حقول خضراء مترامية تؤدي الرقصات الخالدة.
إنني في القوش ويحل فصل الربيع حيث يكسو البساط الأخصر المساحات
وتتزاحم الورود الجميلة شقائق النعمان ( بيبون دنيسان ) وبيبوند آذر
والنرجس ( مرقوزي ) كل هذه الزهور الجميلة وغيرها تتزاحم في هذا
الفصل وكأنها في سباق لأختيار ملكة الجمال ، وهي ناسية او متناسية ان
جمالها يكمن في جمعها في باقة واحدة لتتصدر ركن البيت الجميل او لتشكل
حديقة جميلة تتخللها شتى الأوراد والألوان والروائح الذكية .
إن أهل القوش الكلدانية يشبهون الورود والزهور التي تكتسي ارضهم فهم
على تنواعاتهم السياسية والأجتماعية فإنهم يجتمعون بل ينصهرون في
بودقة عشق وحب القوش ليشكل مجتمعاً من شباب ونساء وأطفال وشيوخ
وعلى اختلاف ميولهم ومشاربهم لتكوين سبيكة صلدة لا تفتتها عوارض
الزمن وتقلبات الحياة والرياح الصفراء .
إنسان القوش لم يتغير ، إنه كسنابل الحنطة التي بقيت على مر الأجيال
والدهور تمنح الحياة وتعطي ثماراً وغذاءاً وثراءً . وهذه السنبلة المعطاء
تجسرني نحو افاق الذكريات في ادب البينهريني حيث سطرت المخيلة
العراقية القديمة أناشيد الخصب والحياة والموت ، ومع انبعاث عبق التاريخ
نقع على احداث ارتشاف رحيق الحب حتى الثمالة ، وممارسة الحياة بكل
ثانية ودقيقة فالزهرة تعيش يوماً واحداً لكنها تعيش اليوم كله ، والخلود في
سجلهم هو للالهة فحسب وعلى بني البشر ارتشاف رحيق الحياة قبل
اختفائه في الأثير ، فنقرأ في ملحمة جلجامش اللوح العاشر ( جوزيف
ياكوب : ما بعد الأقليات ص64 ) :
وحدها الآلهة تعيش ابداً تحت الشمس ،
اما الأنسان ، فأيامه معدودة .
مهما فعل فليس ذلك إلا هباءً ،
اين تذهب يا كلكامش ؟
الحياة التي تبحث عنها
لن تنالها
حينما خلقت الآلهة العظام ، البشر
جعلوا قدرهم الموت
واحتفظوا لنفسهم بالحياة الخالدة
ولكن انت يا كلكامش
ليكن بطنك شبعاناً ابداً
كن فرحاً ليل ، نهار
أرقص وامرح
اجعل من كل يوم من حياتك
عيداً للفرح والمسرات
لتكن ثيابك نظيفة وفاخرة
اغسل رأسك واستحم
لاطف بيدك الطفل الذي يمكث فيك
افرح الزوجة التي بين ذراعيك
هذه هي الحقوق الوحيدة التي يحظى بها البشر .
وفي دعوة لممارسة الحياة حتى الثمالة نقرأ في قصة العشق بين نرجال
وهو من العالم العلوي وهو عشيق ايريشكيجال وهي سيدة العالم السفلي
وتملك بيدها عصا الموت فيهابون سطوتها ، وبعد ان يحاول نرجال عشيقها
الأختفاء ، تبحث عنه وتقتفي آثاره وتنشد :
أعيدو ذاك الذي كان يغمرني لذة وقبل ان اشبع منه تركني ، اعيدوه ليصبح
قربي ويبقى ليلاً ونهاراً معي ..( من مقال محي الدين لاذقاني جريدة الشرق
الأوسط 19 / 1 / 2001 ) .
كنت اعمل في اعالي البحار المترامية واحاول ان أقارن هذا الأمتداد
اللامنتهي مع صديقي الجبل ، حيث كان له سحره الكبير ويفلح في تبدد
الشعور بالوحدة ، وإن تسلقت بعض صخوره وسرحت في شعابه ، كانت
السهول تمتد امامي وفي الليل حيث السماء المرصعة بالنجوم ، وفي الأفق
الأمامي تمتد الأنوار المنبعثة من المدن باتجاه الموصل حيث تمتد تللسقف
وباقوفا وباطنايا وتلكيف ، وهذا ما اوحى لي لأختار هذا العنوان لمقالي وهو
زهرة المدائن وهو لقب تحبذه فيروز لكي تكنى به القدس ( اورشليم ) .
على الصخور الصلدة وعلى قمم جبلها رسمت بريشة قلمي صورة الفتاة
الجميلة والأصدقاء الأوفياء والطفولة السعيدة والآمال الخضراء .. بعد عقود
من الزمن الفاني ، ذهب كل صديق الى حال سبيله ، لا بل ان هذه المدينة
وقفت عاجزة عن تلبية طموحاتنا ، وأستطيع ان اقول انها رمتنا كما ترمي
فتاة فتات الخبز للأسماك في اعماق البحر ، فكان مصير كل منا في بلد ما او
مدينة ما او اقاصي منسية في مكان ما .
اليوم لم يعد امامي سوى ان اضع بعض تحيات هنا وهناك فالمرأة الألقوشية
التي لا زالت تقف امام لهيب التنور وقد احمر وجهها من شدة الحرارة وهي
تخرج الرغيف المحمص ، وأقول لها ان امك كانت تتسلق الجبل في
الصباحات الباكرة وتجلب الحطب لتشعله في الموقد الطيني ، الأثفية ،
وبلغتنا الكلدانيــــة ( بايا : Paya ) لتدفي الغرفة وتطبخ البرغل والحبية .
وأقول الشاب اليافع المفتول العضلات ان ابيه كان يستيقض مبكراً ليصحب
دوابه ويبدأ بحراثة الأرض ليزرعها وفي صباحات الصيف الباكرة يحمل
منجله ليبدأ مشوار الحصاد .. وأحيي الشاب الجميل الذي يركب سيارته
الفارهة في شوارع القوش حيث كان ابوه او جده يقود حماره المحمل
بالحنطة قاصداً صوب رحى البيندوايا ليحصل على الدقيق ، وأرى امامي
فتاة اخرى وفي يدها ( صوندة ) تغسل الشارع بالماء ويفيض امامي الماء
في الأزقة فيهدر هذا الماء وهو المادة الثمينة ، والذي كان يشكل دائماً
مشكلة ازلية في هذه القوش إن كان للزراعة او للشرب او الأستعمال اليومي
، فأتذكر في اوائل الخمسينات من القرن الماضي امهاتنا اللائي يسهرن
ساعات طويلة فوق فوهة البئر لتفلح في جمع الماء الناضح المتجمع في
قعرها . هذه هي الحياة كل يوم بل كل لحظة لها مميزاتها وهمومها وأفراحها
واتراحها .
اليوم خرجنا من دائرة الخوف ومن عقدة مداهنة الدكتاتور ، وبدأنا نعبر عن
هويتنا بحرية ، ولم تعد تلك النقطة اللعينة ( السيطرة )التي كانت مثبتة
قبل الدخول الى القوش لم يعد افرادها يهينون كرامتنا ولم يعد فيها من
يمنع المواطن من جلب مادة غذائية لأطفاله حيث كانت في حينها تعتبر من
الجرائم ، ولم يجرأ اليوم من يقف في هذه السيطرة النظر والتحدق في
المرأة الجالسة في السيارة ، لقد كانت السيطرة في زمن البعث سيطره
مخصصة لأهانة الأنسان الألقوشي وإذلاله ، اليوم نشعر بالكرامة والحرية ،
من حقنا اليوم ان نجاهر باتجاهاتنا السياسية ونمارس طقوسنا الدينية ،
ونعلن عن قوميتنا الكلدانية بكل فخر واعتزاز دون خوف او وجل .
كم انا سعيد اليوم ان يقف على مصير القوش اناساً طيبون ، شباباً اقوياء
مفتولي العضلات ، اناساً مثقفين متسلحين بالعلوم والفلسفة والمعارف ، إن
من يقرأ تاريخ القوش سيجد امامه تاريخ زاخر بالعلوم والفنون ، ملئ
بالتضحيات والبطولات ، حافل بمواقف التعاون والتآخي والتكافل ايام المحن
والضيق والفقر ، إنها القوش التي يعشقها ابنائها اينما حلوا في حلهم
وترحالهم ، وسوف لا اقول ” القوش يمد مثواثا ” بل اقول القوش يازهرة
المدائن ومربض الأسود .
إن موجة الهجرة الذي ينتابها اليوم سوف تتبدد يوماً ما ، وتعيد القوش
عافيتها ويعود تألقها التاريخي ، وتبقى محتفظة بمآثرها ومنزلتها الرفيعة
في الوطن العراقي وفي اقليم كوردستان . إنها القوش القلعة الكلدانيـــــــــــة
الخالدة .
الاخ العزيز عامر
شكرا لاهتمامك ومرورك الكريم
ومرة اخرى اطلب منك ان تقرأ المقال مرة اخرى فلا يوجد اي تصغير او تنقيص من قيمة القرى الاخرى
نعم الالقوشيين يحبون القوش والتلسقوفيين يحبون تلسقف ..وكل شخص يحب مسقط رأسه مهما كان ولكن هذا ليس معناه كره الاخرين
سأعطيك مثلا اخر لو انك امتدحت زوجتك او حبيبتك بانها جميلة فهل تقصد ان الاخريات قبيحات !!!!!! فهذا ليس منطق يا اخينا العزيز
ومن جهتك اكتب ما شئت لقريتك العزيزة واذا لم ننشرها لك فلك علينا عتب
مع تحياتنا الحارة
المحرر
عزيزي المحرر
لا اريد الخوض في تعليقك وتحليله لكنني لا زلت ارى انغلاقكم في خانة القوش التي يحبها الجميع ، لانكم باسلوبكم هذا تستصغرون البقية مما يزيد من الانشقاقات بيننا ، اسلوب يتهمكم الجميع فيه بزيادة الانشقافات !!
مع التقدير
عامر شماشا
الاخ عامر شماشا
كل قرانا المسيحية جميلة ورائعة والكاتب كاي شخص اخر يحب ويعتز بقريته التي نشأ وترعرع بها وهذا حق كل انسان وهو كما هو معروف عنه يحب كل القرى ويعتز بها كما لكل قرية جمالها وخصوصيتها وتاريخها المشرف كما انه يعتز بتلسقف وباقوفا وتلكيف وباطنايا……..والخ من هذه السلسلة الجميلة من قرانا الكلدانية الجميلة لذلك نرجو قراءة المقالة مرة اخرى
المحرر
لازم بقية القرى والمدن المسيحية هي مرابض الجريدية!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
عامر
لم تــُـبقِ لنا شيئاً نـكـتـبه يا حـبـيـب فـهـنيئاً للجـميع ألقـوش الكـلدانية عَـبـر الدهـور