يذكر ريموند كوز في كتابه (تاريخ كنيسة المشرق/ مسيحيو العراق وايران وتركيا ج2 ص 231) في عهد البطريرك النسطوري مارشمعون التاسع عشر بنيامين، أبدى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني انحيازاً الى سياسة الإسلام المتطرِّف، فأوعز بارتكاب مجازر ضِدَّ أبناء الكنائس المسيحية في تركيا مِن دون تمييز بين اليعاقبة والأرمن والكلدان بفرعَيهم الكاثوليك والنساطرة المتسمين بالآثوريين حديثاً، فتعرَّضَ للذبح خمسة آلاف مسيحي في مدينة الرُّها وحدها الى جانب سلب الممتلكات وحرق المنازل والإساءة الى النساء… ويُضيف المؤرخ كوز: لما نشبت الحرب العالمية الأولى إتَّجهَ البطريرك مارشمعون بنيامين نحو روسيا القيصرية، وكان قراراً خطيراً وثقيلاً بالتداعيات المصيرية جَرَّ على شعبه الكوارث والويلات.
منذ مستهل القرن العشرين ارتُكِبت مجازر جديدة بتحريض من جمعية تركيا الفتاة التي اعتمدت السياسة اللبرالية في بداية تأسيسها، إلا أن سياستها انقلبت الى تطرُّفٍ قومي يسعى الى استئصال عِرقي، فغدت حركةً عنصرية شوفينية لم تقتصر مُعاداتها على المسيحيين فحسب بل شملت جميع المكونات الصغيرة الغير تركية. لم يختلف مصير الكلدان بفرعيهم النساطرة والكاثوليك المُقيمين في سهل اورميا الفارسية عن مصير إخوتهم في السلطنة العثمانية. بعد تسلُّط الروس على أذربيجان، احتلَّ جيشُهم اورميا عام 1911م ولقي ترحيباً من المسيحيين مُعتبرين قدومَه عملاً تحريرياً. علَّق الكلدان النساطرة آمالاً على نظام يُعتبَرُ مسيحياً يتعهد بحمايتهم، وتمثَّل ذلك بالأهمية التي أعطاها جاثاليقُهم للكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
تخبُّط الكلدان النساطرة
وننقل عن ريموند كوز في كتابه المنوَّه عنه أعلاه بتصرُّفصياغي دون المساس بالفحوى: وبالرغم مِن تعليق الجاثاليق النسطوري شمعون التاسع عشر بنيامين آمالاً على روسيا وكنيستها الأرثوذكسية، فإنَّ أميركا البروتستاتية كانت الأسرع في نجدة الكلدان النساطرة، حيث أرسلت الراعي بورد الى اورمية عام 1834م وفي ذات الوقت لحق به طبيب، ففتح لهم مدرستَين داخليتَين إحداهما للصبيان والثانية للفتيات وفي عام 1837م جلبوا لهم مطبعة بهدف طبع العهد الجديد مترجماً الى اللغة السوادية. وفي عام 1855م شيَّدوا كنيسة لهم وبعد سبع سنين أي في عام 1862م وُضِعت في عهدة رعاة من مواطنيهم، ومنذ عام 1870م تَولّى المُرسَلون المشيخيون إدارة الرسالة البروتستانتية وقد بلغ عددُ معتنقي هذه البِدعة 700 عضواً وفي عام 1907م وصل عددُهم الى 2600 عضو. ولدى قيام الحرب العالمية الأولى كانت مجموعات الإرساليات البروتستانتية تُدير 63 مدرسة ومستشفىً واحداً.
وصل المُرسَلون اللعازريون الى اورميا عام 1840م، لعبوا دوراً مُهِمّاً وبارزاً في تثقيف هذه الزُّمَر المسيحية بهدف كسب أكبر عددٍ ممكن من أعضائها الى الكنيسة الكاثوليكية. أما المُرسلون الأنكَـليكان فقد رأوا في قوجانس مقر البطريرك النسطوري عَصِيَّة على النَيل منها، لذلك ارتأوا أن يتخذوا من اورميا مركزاً لهم عام 1886م، انكبوا على تنشئة الإكليروس النسطوري وتثقيفه، وعلى غِرار أندادِهم البروتستانت الأمريكيين فتحوا لهم مدرستَين داخليتَين إحداهما للبنين والأخرى للبنات، ولم يتقاعس مُرسَلون آخرون كاللوثريين الألمان من القدوم الى اورميا عام 1881م لنشر تعاليم كنائسهم في أرضها الخصبة، ثمَّ تبعهم امريكيون ومنهم المعمذانيون عام 1905م وهم مواطنون عائدون من المهجر الأمريكي بعد إقامة فيه مدةً من الزمن.
أما الروس الأرثوذكس فكانوا آخر القادمين الى بلاد فارس، وقد أفلحوا في كسب أغلبية النساطرة، وفي عام 1861م وصل مبعوث الجاثاليق النسطوري الى سان بطرسبيرغ حاملاً مشروع الوحدة بين الكنيستَين. وبدورها قامت الكنيسة الروسية بإرسال مُراقبٍ لزيارة منطقة النساطرة، فأورد في تقريره بأن عدد الراغبين من أتباع الكنيسة النسطورية بللإنضمام الى الكنيسة الأرثوذكسية يُقَدَّر بأربعين ألف، وهو عدد مُبالغ فيه، بيد أن مجمع الكنيسة الروسية لم يُرحِّب بالمشروع، فكان نصيبُه الإهمال والنسيان. وفي عام 1883م أعاد أتباع الكنيسة النسطورية طلبهم للإنضمام الى الكنيسة الروسية، وكان الروس آنذاك قد أبدوا رغبتهم علناً في الإستيلاء على أذربيجان. تَمَّ قبول عددٍ من النساطرة بالإنضمام الى الأرثوذكسية، وقد أشرف على ذلك يونان مطران سوبورغان لدى حضوره بمعية بعض موفدي كنيسته الى سان بطرسبيرغ، وهنالك أعلن جميع المنضمين نبذهم رسمياً المُعتقد النسطوري في 28 آذار 1898م.
أعقبت هذه البادرة، قيام الكنيسة الروسية بإرسال بعثةٍ جديدة الى أورميا، برئاسة ايليا الذي رُسم مطراناً على ترغوار عام 1900م. تمَّ فتحُ ستين مدرسة وديراً واحداً، أما نصبُ مطبعةٍ وفتحُ مستشفى وإنشاءُ معهدٍ كهنوتي فقد أُدرجوا ضمن مشروع بقي حبراً على ورق، بسبب عدم توفُّر المال اللازم، وبقيام الثورة البولشفية عام 1917م توقفت كُلُّ مشاريع الكنيسة الروسية. وما كان انضمام نساطرة أذربيجان الى الأرثوذكسية إلا مُجرَّد خيار سياسي ليس إلا، إذ كان حُلمُهم اندماج اقليمهم بجارتهم روسيا، وبذلك يتحرَّرون من نير عبودية الإسلام، كان التزاماً منهم دفع بهم الى خوض الحرب الى جانب حُماتهم الجُدد أي الروس.
ولكن ما الذي تبقّى من الجزء الإنعزالي لشعب الكنيسة الكلدانية النسطورية ذات الماضي المجيد؟ ها هو جاثاليقها اليوم يتردَّدُ طويلاً بين الكاثوليكية والأرثوذكسية، بعد أن ترك الكثير من اساقفتِه كنيستَهم النسطورية وانتمى بعضهم الى الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية والبعض الآخر الى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وعن ذِكر تردُّد الجاثاليق مار شمعون التاسع عشر بنيامين تذكر بعض المصادر الأخرى، بأنَّ علاقة صداقةٍ حميمة نشأت بين مار شمعون وبين القس بطرس عزيز الكلداني الكاثوليكي المتواجد في اورميا آنذاك، ولم يكن يُخفي البطريرك شكواه على غِرار عَمِّه وسلفِه مار شمعون روبين من تصرُّفات المُرسَلين الأجانب ولا سيما الروس والإنكليز اللذين خذلاه وشعبه، وإنَّ ما يجب القيام به هو العمل على توحيد الكنيستَين الكلدانية النسطورية والكلدانية الكاثوليكية، وعندذاك يتوحَّد الشعب الواحد والأمة الواحدة، ويتمنّى أن تتحقَّق هذه الوحدة بعد انتهاء الحرب، كما يتمنَّى أن يلتقي بقداسة البابا، فوعده القس بطرس عزيز بتحقيق أمنيته.
إلا أنَّ البطريرك مار شمعون بنيامين غيَّر ما أعلن عنه للقس بطرس عزيز، حيث يقول ريموند كوز بأنَّ مار شمعون بنيامين وفي ربيع عام 1914م أبدى رغبتَه في التحوُّل الى الأرثوذكسية مع جميع المتبقين من أبناء شعبه وهم المقيمون في جبال هيكاري التركية التابعين لأساقفة برواري وجيلو وكاوار وشمسدين وعددُهم لا يتجاوز السبعة والتسعين ألفاً بضمنهم النساطرة المتواجدين في البلاد الفارسية البالغ عددُهم 31750 حسبما احصاه مبعوث قيصر روسيا باسيل نيكيتين، والسبب في تضاؤل الشعب النسطوري الى هذا الحد هو انتماء الكثير منه الى الإرساليات المختلفة، وبعد المجازر التي تعرضَ لها على أيدي الأتراك والأكراد ابتداءً من عام 1915م خسر نصف عددِه هذا.
الكلدان بشقيهم النساطرة والكاثوليك تحت سيف الأتراك والأكراد
نقتبس بتصرُّفٍ صياغي دون الإخلال بالمحتوى مِمّا رواه ريموند كوز في كتابه الموسوم (تاريخ كنيسة المشرق/مسيحيو العراق وايران وتركيا ج2 ص 237 وما يليها) بأنَّ معظم الكلدان النساطرة الذين سَمّاهم بالآثوريين استوطنوا مناطق جبال هيكاري ضمن مساحة تركيا الحالية، واتخذوا منها مثوىً لهم. في خِضَمِّ الحرب العالمية الأولى 1914-1918م تعرَّضَ جزء كبير من أبناء الأمة الكلدانية بشقيها النسطوري والكاثوليكي لمجازر دموية يمكن تصنيفها بإبادة عِرقية، قدَّرَ السير هنري دوبس ضحاياها بثُلثَي أبناء الأمة الكلدانية النسطورية.اضطرَّ الناجون منهم للنزوح من أرض آبائهم وأجدادهم وهم يطمحون أن يُنصفهم مؤتمر السلام بايجاد وطن مستقل لهم وعدهم به الحليفان الإنكليز والفرنسيون إلا أنَّ الواقع السياسي المُستند على المصالح ضحّى بالحقوق الشرعية لهؤلاء المنكوبين.
في بداية عام 1909م اجتاح الروس اذربيجان ايران، فاستبشر مسيحيو هذه المنطقة من الأرمن والكلدان بشقيهم النساطرة والكاثوليك خيراً ظنّاً منهم بأنَّ ذلك يُعَد بدايةً لتحرُّرِهم من نير ظلم الإسلام الثقيل، فلما أُعلِنت الحرب في الثالث من تشرين الأول عام 1914م بين روسيا وتركيا، فمِن الطبيعي أن يدخلوا الحرب الى جانب الروس، فشاركوا في حربٍ اعتبروها تحريرية. جرت اولى المناوشات القتالية في بلاد فارس، كانت الغلبة فيها للأكراد حيث تمكنوا من طرد الجنود الروس الكوزاك المتمركزين في المناطق الحدودية، فاضطرَّ مسيحيو مقاطعتَي ترغوار ومرغوار الواقعتين في الجبال النزوح الى قرى السهل في حماية الروس ليتفادوا غزوات عصابات قطاع الطرق، ولا سيما بعد أن تحصَّنَ الأكراد في تلك الجبال.
فور إعلان الحرب قام جودت باشا والي اقليم وان الأرمينية بحشد عشرين الف جندي يُساندهم عشرة آلاف متطوِّع كُردي، وشَنَّ هجوماً على القوات الروسية وكان النصرُ حليفَه في معركة “مياندوب” فانسحب الجيش الروسي. وفي 2/1/1915م غادرت اورميا القوات الروسية الموجودة فيها وفي 4/1/1915 غادرت سلامس تلك الموجودة فيها أيضاً، وخوفاً مِن بطش المسلمين بالمسيحيين الذين التجأوا الى قرى السهل، التحق بالقوات الروسية المتجهة الى القوقاز عددٌ من اولئك المسيحيين تراوحَ بين عشرة آلاف وخمسة عشر الف نسمة، وقد مات عددٌ كبير منهم في الطريق من شدَّة البرد. أما المسيحيون الذين لم يرحلوا مع القوات الروسية ولبثوا في القرى فقد تعرَّضوا في البداية للنهب والسلب من قبل السكان المحليين الفرس المُسلمين ثمَّ لمجازر رهيبة. وفي الرابع من كانون الثاني 1915م احتلَّ الأتراك اورميا ومكثوا فيها حتى العشرين من أيار 1915م. ولم يستطع الأكراد الإعتداء على اورميا لوجود المُرسَلين الأمريكان والفرنسيين الذين كانوا يحمونها بما كان متاحاً لهم من الأساليب والوسائل. . لكنَّ الأكراد هاجموا القرى المسيحية المجاورة لأورميا وكانوا يلقون الدعمَ من السكّان المحليين المسلمين منذ الأيام الأولى لإجتياح الأتراك لأورميا، وعلى سبيل المثال وإنصافاً للحقيقة والتاريخ لا بدَّ من الإشادة بشهامة وشجاعة الفلاحين الفرس الذين تصدّوا للمهاجمين الأكراد ومنعوهم من إلحاق الأذى بمسيحيي “جيوقتبا” فلولاهم لكان مصيرُهم الموت المحتَّم. إنَّ المسيحيين لم يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه الخطر الداهم للقضاء عليهم بل كان دفاعُهم عن أنفسهم دِفاعا اسطورياً نادراً، من خلاله تمكَّنوا مِن الإحتماء داخل كنيستين، وأسرع المُرسلون الأمريكان بالتدخل لصالحهم فأنقذوهم. وكان استمرارُ العلاقات الدبلوماسية بين الدولة العثمانية والولايات المتحدة الأمريكية حتى نيسان من عام 1917م ذا فائدةٍ للكلدان والآثوريين حيث أتاح لحاملي الجنسية الأمريكية منهم التدفق على مدينة اورميا سعياً للنجاة والحماية وكان عددُهم الفّي نسمة. أما مستوطنو مُقاطعة “نازلو” الواقعة بعيداً الى الشمال فلم تطلهم المجازر، إذ إنَّ أعمال النهب والسلب والإغتصاب لم تشمل إلا بعض القرى فقط.
إنَّ مدينة اورميا لم تبقَ سالمة، فانقلب الوضعُ فيها سريعاً الى مأساةٍ كبيرة، حيث هاجمتها العصابات الكردية بشراسةٍ خالية من أدنى رحمة، فأبادت الرجالَ عن بكرة ابيهم، وتعرَّض عددٌ كبير من النساء للإغتصاب ثمَّ سُبينَ قسراً، أما الناجون من سيوف الناقمين الأكراد، فقد هرعوا للإحتماء في مبنيَي الإرسالية الفرنسية والمعهد الأمريكي اللذين لم يكونا مُعدَّين لإيواء أكثر من 500 شخص، بينما وصل عددُ المتكدِّسين فيهما الى عشرة آلاف نفس، انحشروا كالبهائم، يفتقرون الى أدنى وسائل الصحة ونقص كبير في الغذاء، وقد سبَّب الإزدحام الشديد في حصول وباءٍ قاتل أودى بحياة عددٍ كبير منهم. وقد نقل لنا المؤرخ البريطاني “أرنولد توينبي” تلك الإنتهاكات المُشينة والأعمال البربرية ضِدَّ الإنسانية في تلك الفترة الزمنية الحالكة السواد من التاريخ في الكتاب الأزرق البريطاني المُعنون “مصير الأرمَن في الإمبراطورية العثمانية” مُخصِّصاً فصلاً كاملاً في كتابه الرابع عمّا عاناه الكلدان الكاثوليك والكلدان النساطرة الذين سمّاهم بالآثوريين من نكبات فظيعة في اذربيجان الفارسية وإقليم هيكاري التركي، مستقياً رواياتِه عن تلك الحقبة المأساوية من شهود عيان محليين ومن مُرسَلين انكليز وأمريكيين، حيث يقول: :
في الفترة المحصورة بين الثاني والعاشر من شهر كانون الثاني لعام 1915م، قُدِّرَ عددُ الكلدان الكاثوليك والكلدان النساطرة المُلقبين بالآثوريين الذين ذُبِحوا في سهل اورميا بالف فردٍ. سِتٌّ وخمسون قرية لجأ إليها الكثيرُ مِن الأرمَن تعرَّضَت لأعمال النهب والسلب المُنظَّمَين. في بعض هذه القرى تمَّ إرسال جنودٍ بحجة حماية سكانها من غير المسلمين، فقام الجنود في 23 شباط من ذات السنة باغتصاب جميع النساء المسيحيات وحتى الأطفال البالغين الثامنة من عُمرهم. طالب القنصل التركي في مدينة اورميا بمبالغ كبيرة من المال بحجة حماية مسيحييها، وبعد أن حصل عليها، قام بتوقيف جميع اللائذين بمبنى الإرسالية الفرنسية، فقتل أربعين منهم ومن ضمنهم مار دِنحا مطران “كَوار” الكلداني، وعَلَّق على المشانق خمسين آخرين. وبعد يومَين من تنفيذه هذه الجريمة النكراء أمر بذبح جميع رجال قرية “كَولياشان” ذبحَ النعاج. أما الطبيب “سوبورغان” الذي رفض اعتناق الإسلام، فقد قضوا عليه بطريقةٍ مُرعبة حيث رَشَّ الأتراكُ النفط عليه وأشعلوا النارَ بثيابه، وفي محاولته الهروب وهو يشتعل أطلقوا عليه وابلاً من الرصاص ثمَّ قطع الجلادون رأسَه، وتركوا جثَّتَه تنهشها الكلاب.
لا يمكن اعتبارُهذه التصرُّفات العبثية المُخجلة نتيجة حوادث غير انضباطية، حيث أدلى القنصل الأمريكي في اورميا في ختام شهادته عن تلك الأحداث الوحشية الدامية بعبارات مُبطنة بالتُهم: ” ما من طبقةٍ إسلامية يُمكنُنا تبرئتُها من اللوم. في الوقت الذي كان الرُّعاعُ القرويون يشتركون في اعمال النهب والسلب وفي اقتراف الجرائم، كان المتنفذون من الأوساط الفارسية الرفيعة يَغُضون الطرفَ عن تلك الأعمال البشعة، لأنَّ نصيبهم من الغنائم كان يصلهم تباعا. ووجد الأكرادُ في هذه المسألة اتفاقَها مع سجيتهم في بيئة نشأتهم الطبيعية، ولم يقتصر دور الأتراك على التشجيع فيما يجري، بل كانوا يشاركون فعلياً في اقتراف أبشع الجرائم ضِدَّ الإنسانية.
قبل ثلاثة أيام فقط من قيام الجيش الروسي بتحرير منطقة سلامس، قام الأتراك منذ الخامس من أيار عام 1915م بذبح 725 فردا من الكلدان النساطرة والكاثوليك والأرمن في سلامس وحدها، وحصد مِنجل الطاعون أربعة آلاف فردٍ جُلَّهم من اورميا المُحتلة من قبل الأتراك لمدة خمسة أشهر، فقدت خلال هذه المدة خُمس سكّانها. وقد تمَّ تحرير اورميا بعد تحرير مدينة وان الأرمنية في 22 أيار 1915م بثلاثة أيام.
الإنتقام التركي
كان للهجوم الدفاعي الروسي الذي حَرَّرَ المسيحيين في بلاد فارس ردُّ فعل عنيف جداً من قبل مُسلمي تركيا على المسيحيين، فقد حَلَّ الوبال بمسيحيي أرمينيا وسالت دماء الكلدان النساطرة والكاثوليك أنهاراً مِن جَرّاء الجَوروالإضطهاد. بعد عودة والي اقليم وان جودت باشا راح يتباهى بانتصارهعلى الروس في حملته على أذربيجان وتنظيفها من المسيحيين. ثمَّ عاد الى اقليم ولايته فدمَّر ثمانين قرية أرمنية، أما الناجون من سكانها فقد لاذوا بالفرار الى المدينة الباقي من سكانها ثلاثين الف ارمني من مجموع الخمسين الفاً. تحرَّكت الجحافل الروسية باتجاه وان في بداية آذار 1915م، وفي الحادي عشر منه، أعلن الأرمن الثورة تأميناً لإستقلالهم أولاً، وتمهيداً للطريق امام الزحف الروسي ثانياً، ومن خلال الزحف الروسي لا بدَّ من حصول مجازر في صفوف المقاومين الأتراك، وكانت المدينة قد حاصرها الأتراك منذ 29 نيسان حتى 20 أيار. ولكن الأتراك صبّوا جام غضبهم على مسيحيي دياربكر وماردين ومديات وطورعبدين، فقد اوقِفَ مسيحيو دياربكر وسجنوا وكانوا يُجلدون مرَّتَين في النهار، وكان هذا التنكيل مدخلا لإرتكاب المجازر لاحقاً، وبالفعل لم ينجُ منها إلا عدد ضئيل استطاعوا اللواذ بالفرار الى سوريا.
استطاع الجيش الروسي تحرير وان إلا أنَّه تقهقر أمام الجيش التركي في هجومه المُعاكس، فاجتاز القائد التركي بجيشه نهر بوتان وتعرَّضَت سبعون قرية كلدانية مسيحية في تلك المنطقة للنهب من قبل جنوده، وإنَّ عدداً كبيراً من المسيحيين أُعدِموا رمياً بالرصاص. ولدى دخول العساكر التركية مدينة سعرد أُعطيت لها الأوامرُ بقتل جميع المسيحيين البالغ عددُهم ثمانية عشر الفاً، وكان أبرز ضحايا هذا الهجوم البربري سيادة مطران سعرد الكلداني الكاثوليكي العالم والمؤرخ الشهير مارأدَّي شير، وقد طال النهبُ مكتبتُه الثرية بالمخطوطات الكلدانية القديمة النادرة، ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نُثنيَ ونُثمِّنَ عالياً شهامة وبسالة أكراد بوتان الذين حاولوا جُهدَهم لحماية إخوتِهم المسيحيين رغم أوامر السلطات العثمانية الغاشمة.
وبعد سعرد جاء دور مدينة نصيبين الشهيرة عاصمة الكلدان الفكرية وأقدم مُدنهم، اجتاحها الجيش التُركي الهمجي فقضى على جميع مسيحييها ومن مُختلف الطوائف ولم ينجُ منهم إلا 400 مسيحي، تمَّ حصارُ الحي الذي كان يسكنه المسيحيون في الخامس عشر من حزيران 1915م وجرى ذبح الرجال والشباب ذبح النعاج أثناء الليل، والنساء اللواتي التجأن في كنيسة ماريعقوب ذُبِحن قاطبة، أما البنات والأطفال فتقاسموهم فيما بينهم، ولم تخلُ القرى المجاورة من المجازر. في السنة التالية مَرَّ بالمدينة أحد السياح فأعلمنا بأنَّه لم يجد فيها حتى مسيحياً واحداً. وفي نفس الفترة هاجمت عصابات كُردية مدينة الجزيرة مدعومة من الجيش التركي النظامي، فكانت ضحايا الهجوم الوحشي 4750 أرمنياً و250 كلدانيا و100 سريانياً، ولهذه المجازر أمثلة لا يُمكن حصرُها.
مارشمعون بنيامين في موقفٍ حَرِج
لقد أصبح وضعُ البطريرك النسطوري مارشمعون التاسع عشر بنيامين لا يُحسَدُ عليه، إذ وقع بين سندان الروس ومطرقة الأتراك، ولا أسوأ مِن الحالة الراهنة وهو يُعاينُ عَن كثب المجازر التي تُرتكب بحق أتباع كنيسته من قبل السلطنة العثمانية، فلم يجد أمامه إلا إعلان الحرب عليها مُضطرّاً. وفي ذات الوقت كانت القبائل الكردية قد عزمت على تصفية الحساب مع ثورة الكلدان النساطرة المُطلق عليهم اسم”الآثوريين” لا بل هناك حسابات بين الآثوريين أنفسهم مؤجلة التصفية ومن أهمِّها قضية مقتل نمرود وآل بيته بأمر مُباشر من البطريرك إبن عَمِّه جرّاء مُوالاته للسلطنة العثمانية وزعامته للآثوريين الكاثوليك المُوالين لروما، وقد سبق وأن تحدثنا بهذه الأمور فيما سبق.
خلال شهر حزيران لنفس العام قاد والي الموصل فرقة عسكرية لمُهاجمة الجناح الأيسر للجيش الروسي، طارد آثوريي هيكاري ففَرّوا مذعورين وتشتَّتوا بين الوديان السحيقة ومنها تسلَّقوا الى قِمَم الجبال الشاهقة للنجاة من قسوة الجُناة الماحقة، اكتسحت هذه الحملة مناطق برواري السفلى وتخوما فدمَّرتها بالكامل. وفي الآخر صدرت الأوامر الى المقاتلين الآثوريين للإلتحاق بالخطوط الروسية في اذربيجان. اضطرَّ البطريرك للهرب من مقرِّه في قوجانس يرافقه خمسة وثلاثون جبلياً متوجِّهين الى سلامس، وكانت القوات العثمانية تتعقبهم، وبصعوبةٍ نجوا منها، ولدى وصولهم بلاد فارس في شهر تشرين الأول باتوا بين الحقول في العراء تحت الخيمة الزرقاء، لم يكن لديهم ما يأكلون ولا ملابس شتائية ليتدثَّرون وهم على مُرتفعات تتعدّى الألف متر، كما لم تُسعفهم أيُّ من القِوى الخارجية. مِئة ألف كلداني نسطوري أي آثوري عانوا هذه المأساة القاسية في تلك الجبال الكردية، ماتَ نصفُهم من جرّاء الجوع والبرد، والنصف الذي لم يطله الموت كانت الهجرة مصيرهم، وهم على معرفة أكيدة بأنَّ مبارحتهم لموطنهم هي نهائية لا أمل لهم في العودة إليه. أما الكلدان الكاثوليك فكانت خسارتهم أربعة أساقفة وعدداً من الكهنة وستين ألف مؤمن.
وبطلبٍ من القائد العام للقوات الروسية وموافقة البطريرك شمعون التاسع عشر بنيامين، شكَّل الكلدان النساطرة والكاثوليك عام 1916م جيشاً تعدادُه 25 ألف مقاتل لدخول الحربِ فعلياً الى جانب الروس والأرمَن ضِدَّ الأتراك، ومنذ اللحظة الأولى تواصل القتال بضراوة أشد، وكان النصرُ لصالحهم في عِدَّة معارك خاضوها معاً، وما لم يكن في الحسبان وبمزيد الأسف، فإن قيام الثورة البولشفية في روسيا عام 1917م أدَّت الى انسحاب الجيش الروسي تاركاً الأرمن والكلدان بشقيهم يُجابهون هجمات أعدائهم المسلمين الشرسين اللاهثين الى سفك دماء المسيحيين.
تعهَّد الحليفان الإنكليز والفرنسيون بتقديم العون للكلدان بشقيهم مُشجِّعين إياهم للصمود، وتأكيدا لهذا التعهُّد أرسلوا لهم وحدة طبية فرنسية برعاية الطبيب العسكري الفرنسي بول كوجول الذي ألَّف كتاباً بعِنوان (مشقات سيارة إسعافٍ فرنسية في بلاد فارس) تحدَّث فيه عن مدة إقامته في اورميا. طلبَ الإنكليز مساعدة هؤلاء التعساء بعد أن تركهم الروس، وزوَّدوهم بعددٍ من المدافع والرشاشات الى جانب بعض المؤن، فغدوا منذ ذلك الوقت كما وصفهم الضابط الأنكليزي W.A. Wegram بـ”اصغر حلفائنا” ولموافقتهم الإشتراك في القتال ضِدَّ العثمانيين، وعدهم الإنكليز بمنحهم قطعة أرض مستقلة من أرض جدودهم، (ويقصدون بهذه العبارة الكلدان النساطرة الذين أطلقوا عليهم تسمية آشوريي التاريخ القدماء الذين وصفوهم بجدودهم) وأيَّد هذا الوعد المسؤولون الفرنسيون على أن يفوا به بعد نهاية الحرب.
واستناداً الى هذا الوعد اشترك المسمَّون بالحليف الصغير في الدفاع عن جبهة القوقاز منذ كانون الأول عام 1917م وحتى ربيع عام 1918م تحت قيادة الجنرال الكلداني أغا بطرس وقادة آخرين، قاوموا هجمات الأكراد والأتراك ببسالة رغم تخلّي حلفائهم عنهم وعدم تلقّي أية مساعدة منهم لا معنوية ولا مادية، (وهذا أكبر دليل على تآمر الإنكليز ضِدَّهم). ورغم كُلِّ ذلك لم يخذل الحليف الصغير الإنكليز، فعندما قرَّر المسؤولون الأتراك في شهر كانون الثاني عام 1918م القيام بهجوم كاسحٍ ضِدَّ جبهة الإنكليز الممتدة من كرمنشاه الىهمدان، كان لا بدَّ لجيوش الأتراك اجتياز المعبر الكائن بين بُحيرة اورميا وجبال كُردستان، فتصدّى لهم الحليف الصغير، أي الكلدان وإخوتهم المُسَمَّون من قبل الإنكليز بالآثوريين، وأوقفوا زحف تلك الجحافل في سِتِّ مُحاولات، وبذلك أتاحوا للإنكليز الوقت الضروري لتنظيم وتعزيز خطوطهم الدفاعية، إلا أنَّ تموينهم اوشك على النفاذ، وتدَفُّق الإمدادات بات صعباً ولا ضمان لوصولها، مِمَا اضطر أبطال الحليف الصغير البواسل للرجوع القهقرى، وكان لإغتيال البطريرك مار شمعون بنيامين من قبل الزعيم الكردي سمكو في 16 آذر عام 1918م صدىً بالغٌ في نفوسهم وبمثابة ضربة قاصمة أثَّرت على معنوياتهم بفقدانهم الزعامة الروحية وأصابهم الإرتباك بعد صمود بطولي دام أشهراً طويلة. والى الجزء الأربعين قريباً.
أحسنت وبارك الله فيك أخي العزيز
السيد لؤي فرنسيس المحترم، أؤيد الاخوة اعلاه واريد اضافة شيء الا وهو ان منطقة سهل نينوى التي يكثر فيها المسيحيين…
الأعزاء أودا و فرج اسمرو المحترمين نعزيكم بوفاة المرحومة المغفور لها شقيقتكم إلى الأخدار السماوية، أسكنها الله فسيح جناته الرحمة…
الراحة الابدية اعطها يا رب و نورك الدائم فليشرق عليها. الله يرحم خلتي مكو الانسانة المحبة طيبة القلب. مثواها الجنة…
Beautiful celebration Congratulations! May God bless Oscar and bless his parents and all the family and relatives