إنَّه إبن أرغون خان الأكبر مِـن زوجَتِه “قوتلوق خاتون” ويُعَـدُّ سادس إيلخانات أو سـلاطين الدولة الإيلخانية، توَلّى السلطة بعد انتصاره على إبن عَمِّه بايدو وقتلِه إياه عام 1295م، وفي جامع تبريز أدّى الشهادتين وأسلـَمَ بوساطة نائبِه “نوروز” الذي كان عدواً سابقاً له، واتَّخذ له إسماً مُركَباً إسلامياً ومَغـولياً “مَحمود غازان” كجزءٍ أول لإعتِناقه الإسلام، وأعقب ذلك إصدارُه أمراً للمَغول يَدعوهم فيه للدخول في الإسلام، وأن يحكموا بالعَدل بين الناس، وتُهدَم دورُ الأوثان ومعابدُ المجوس وتُحَوَّل الكنائسُ الى مساجد، ويُلزَمُ أهلُ الذمة بارتداء الغيار وهو بالنسبة الى المسيحيين شدُّ الزنار حول أوساطهم أما اليهود فعليهم رَبطـ خِرقةٍ صفراء بعمائمِهم، وامتدَّ هذا الفرضُ ردحاً، وصادرَ غـازانُ دارَ علاء الدين الطبرسي التي كانت تُدعى أيام آخر الخلفاء العباسيين بالدويدار الكبير والذي أهداه هولاكو لبطريرك الكلدان النساطرة مارمكيخا الثاني منذ استيلائه على بغداد، فازيلت تماثيلُها ومُحِيَت النقوش الكلدانية مِنها، كما حُوِّلت دارُ الفلك المقابلة لدار الدويدار الى مجلس ٍ للوعظـ بعـد أن ازيلت مِنها قبورُ كبار النصارى الذين كانوا مدفونين فيها. فبدأت العَقيدة الإسلامية تنتشر في المناطق المنغـولية انتشاراً سريعاً. ويَقول كرستوفر آتوود في (إنسكلـوبيديا المنغـولية وإمبراطورية المغول ص 199) إلا أن غازان كان يُمارسُ وبسِرِّيَةٍ الديانة الشامانية ويعبد الإله “تنغـري” ويُكرم الأسلاف، ويَعبد السماء كنوع مِن عقيدة الإسلام التوحيدية.
مُعاداة نوروز للمسيحيين
يتحدَّث إبن العبري (التاريخ السرياني ص 595 – 598) عَن مساويء المجرم نوروز بالقول: <بأنَّه كان وراء كُلِّ الإجراءات التعسُّـفية التي طالت المسيحيين، فهو الذي أصدر أمراً بهدم الكنائس المسيحية، والكنيستات اليهـودية، والمعابد الوثنية، وبقتل رجال الدين المسيحيين، وبفرض ضرائب باهظة على غير المسلمين، وبفرض الأوامر العـُمَرية على المسيحيين واليهود بلبس الغيار والشارة. واستغلَّ الرُعاعُ ذلك الأمر الجائر لتدمير الكنائس في تِبريز، وزحفت أعمالُ الفوضى الى الكثير مِن المناطق، وتفاقمت محنة المسيحيين، وكانت أكثر شدّة ً وقساوة في بغـداد، بحيث لم يكن المسيحيُّ يتجرّأ على الظهور في الأسواق، وكان لنوروز التأثير الكبير في صدور أوامر ملكية اخرى الى مُختلف مناطق البلاد بإرسال السعاة المغول إليها لهدم الكنائس ونهب الأديُرة، وكان المسيحيون يتداركون أمرَ إلحاق الضرر بكنائسهم قبل وقوعِه وذلك عن طريـق إرشاء السعاة بالأموال. ولدى قدوم السعاةِ الى أربيل، لم يدفع لهم مسيحيوها شيئاً حتى ميطرابوليطها لم يقُم بإرضائهم، فقاموا بتدمير ثلاثٍ مِن كنائسها في 28 تشرين الثاني لعام 1296م. ولما اتصل هذا الخبر الى مسامع مسيحيي نينوى، بادروا الى جمع 15 ألف دينار ودفعوها للسعاة فلم تُدَمَّر كنائسُهم .
وجاءَ في الفصـل السادس مِن كتاب (غـازان، والتقليد الإسلامي المغولي ص 9) لم يَخلُ عهدُ غازان مِن اضطراباتٍ دينية وكان حدوثها بتحريض ٍ مُباشر ٍ مِن الأمير المنغـولي المسلم الشيعي المُتزمِّت “نوروز” عدوِّ غازان السابق ومُقرَّبِه الحالي الذي عَهِدَ إليه بقيادة الجيش في خُرسان، فقد أصدر مرسوماً رسمياً ضِدَّ استمرار ممارسة الديانات الاخرى في المناطق الخاضعة للإيلخانات، فباشر المُوالون لنوروز باضطهاد المسيحيين والبوذيين وحتى الإيرانيين مِنهم. ويقول المؤرخ (رو Roux ص 430) وتَمَّ نَهبُ الكاتدرائية المسيحية الكلدانية في العاصمة المنغـولية مراغـة. ولكنَّ ريجَرد فولتز في كتاب (غازان تعَمذ ونشأ مسيحياً ص 129) يُشير الى قيام غازان بوضع حَدٍّ لتلك المُمارسات بإصداره مرسوماً يُعفى بموجِبه المسيحيون مِن دفع الجزية. في أيار مِن عام 1297م يقول المؤرخ (روRoux ص 432) أمر غازان باعتقال أنصار نوروز بتُهمة الخيانة، ثمَّ أمرَ بتجهيز حملةٍ وإرسالها لملاحقة نوروز قائدِ جيش خُرسان واعتقالِه، فدارت معركة ٌبالقرب مِن نيسابور بين قـوّات غازان ومناصري نوروز، إنخذل فيها نوروز وهربَ طالباً اللجوءَ الى ملك هيرات شمال أفغانستان، إلا أنَّ ملك هرات إعتقله وأرسله الى غازان الذي أعدمَه فوراً في 13 آب مِن نفس السنة، فاستتَبَّ الأمرُ لغازان وتمكَّن مِن السيطرة على الوضع. وفي هذه السنة قـدِمَ السلطان غازان الى بغـداد فرفع الظلم ونشرالأمنَ وشمل المواطنين جميعاً بالعَدل والرأفة. ويَروي بطرس نصري (ذخيرة الأذهان ج2 ص 19) <بأن ثِقلاً كبيراً انزاح عن كاهل البطريرك بعـد مَقتل نوروز المُجرم، حيث تأكَّد الملك غازان مِن براءة المسيحيين مٍمّا كان يتهمُهم به المسلمون زوراً وافتراءً. وكانت الفترة الواقعة بين عامَي 1295 – 1297 عصيبة ًعلى المسيحيين لم تتخللها إلا بعض محطات هدوءٍ قصيرة بعد كُلِّ مُقابلة تُتاح للبطريرك لمقابلة الإيلخان “الملك”> ونُواصل سرد الأحداث بتصرُّفٍ مستعينين بقصة حياة ماريَهبَلاها .
البطريرك وغازان
كان للملك غازان مقرٌّ شتوي في “موغان” يقضي فيه فصل الشتاء، ففي نهاية شتاء عام 1296م وبعد قيام رجال نوروز بإبتزاز البطريرك يَهبَلاها بمبلغ عشرة آلاف دينار، أرسل البطريرك مبعوثاً خاصاً الى الملك غازان، فبيَّنَ للملك بوضوح جميع الأحداث التي جرت للمسيحيين ورئاستهم الدينية، فكان تأثُرُ الملك واضحاً يشوبُه انـزعاجٌ مِمّا تعَـرَّض له البطريرك مِن المعاملات السيئة، فأصدر أمراً يُعفي فيه المسيحيين مِن الجزية، وأن لا يُجبرَ أحدٌ مِن المسيحيين على تَرك دينِه، وإنَّ البطريرك هو الرئيسُ الفعلي للكنيسة، وأن يُعاد كُلُّ ما سُلِبَ ونُهـِبَ مِن البطريرك والأساقفة. وأمر بإرسال خمسة آلاف دينار الى البطريرك لمصرفه لحين مجيئه لمقابلته. وخلَفت الإضطراباتُ التي أثارها نوروز دماراً كبيراً في كنائس همدان وتِبريزوأربيل والموصل وبغـداد، وبتحريضٍ مباشر مِن نوروز إستولى المسلمون على الكنيسة والمقرِّ البطريركي المقامَين مِن قبل البطريرك مكيخا الثاني بأمر مِن الإيليخان الكبير هولاكو وعقيلته دقوز خاتون في دار الدويدار المُهدات له مِن هولاكو خان، ويقول صليبا في (المجـدل ص 122 – 125) بأن المسيحيين إضطرّوا بعد هذا الدمار الى نبش القبور في الكنيسة المُهدَّمة والتقطوا مِنها بقايا رفاة البطريركَين مكيخا الثاني ودنحا الأول ونقلوها الى كنيسة سوق الثلاثاء. وبعودة مبعوث البطريرك الى الملك غازان مُزَوَّداً بأوامر صريحة مِن الملك، عاد الإرتياحُ الى البطريرك ماريَهبَلاها، وبادر الى فتح المقرِّ البطريركي في مراغا واضطرَّ المُعتدون مِن المُسلمين الى إعادة الأموال التي إبتزّوها مِن المسيحيين. وفي تموز من عام 1296م غادر البطريرك مراغا متوجهاً الى “موغان” حيث كان لا يزال الملكُ غازان هناك، ونال مِن الملك هو ومُرافقوه مِن الأساقفة استقبالاً ترحيبياً رائعاً مِمّا أثار في نفوس المسلمين المزيد مِن الحِقد والحسد.
فقام رُعاعُهم ببَثِّ الإشاعات الكاذبة ضِدَّ المسيحيين وانتحال البعض مِنهم لمسؤوليات حكومية زوراً، حتى أن شخصاً يُدعى “شاخ تيمور” دخل الى مراغا وادعى أنَّه يَحمل تخويلاً يقضي بقتل كُلِّ مسيحيٍّ يمتنع عن الدخول الى الإسلام، وكان الملكُ في هذه الأثناء وهي بـداية شتاء عام 1297م قـد نزل الى بغداد لقضاء فصل الشتاء. أما البطريرك فبقي في مراغا. ولما طرقَ سَمعَ المسلمين إدِّعاءُ هذا المُزوِّر إستعَـرت في داخلهم نارُ الإنتقام مِن المسيحيين، فاقتحَموا المقرَّ البطريركي وعمِلوا فيه نهباً، ولدى افتضاح خُدعة هذا الرَجل المُفتري، خشيَ الناهِبون عِقاب الدولة، فسارعوا الى إعادة الأموال المسلوبة ومِن بينها كان الختم الذهبي هدية مانكو خان للقلاية البطريركية، والتاج الذي كان أهداه البابا للبطريرك، والختم الفضي المُهدى مِن قبل أرغـون الملك للبطريرك . وتقـرَّرت محاكمة الجاني المُحتال، بيد أن المسلمين عزموا على الدفاع عَنه، فما إن مثل المسلمون أمام الأمراء حتى بدأوا برمي الحجارة عليهم فلاذ الأمراءُ بالفرار الى بيوتهم، وخلت الساحة أمام هؤلاء الرُّعاع المسلمين ليصُبوا جام حقدهم وغضبهم على المسيحيين ولم يكتفوا بالضرب والتعـذيب بل هاجموا مقرَّ البطريركية وعملوا فيها نَهباً وتَدميراً، ودخلوا كنيسة مارماري ومار كيوركيس التي كان قد بناها الربّان صوما فنهبوا كُلَّ ما فيها. أما البطريرك والأساقفة فقد احترزت عليهم إحدى الأميرات فنجوا مِن القتل. وبعـد بضعة أيام غادر مراغا البطريرك والأساقفة الذين معه متوجهين الى جَبل يُدعى سياهكوه ومكثوا هناك حتى عودة الملك مِن بغداد الى هَـمدان، فزاره البطريرك في موقع قريبٍ مِن هذه المدينة وأطلعه على كُلِّ ما جرى. فكان استياءُ الملك كبيراً ورَدُّ فعلِه سريعاً، حيث أصدر أمراً بإعتقال جميع سكان مراغا وتعذيبهم حتى يُعيدوا كُلَّ ما سلبوه ونَهبوه فاستُردَّ جزء قليل مِن تلك الأموال .
كان الأميـُرالمنغوليُّ القائد المسلم المتـزَمِّت المدعو نوروز السببَ الرئيس في إثارة الإضطرابات في كافة أنحاء المملكة الإيلخانية َضدَّ المُواطنين غير المسلمين ولا سيما المسيحيين مِنهم، واشتَدَّ شراسة ً في افتعـال أعمال الشر وإثارة الفِتَن عَـن طريق تَحريض المسلمين وتسخيرهم للسلب والنهب وقتل المسيحيين وبخاصةٍ بعد تمرُّدِه على الملك غازان، فعلى اثر مَقتل أحد كبار المسلمين الجائرين على أيدي القياجيين المسيحيين (القياجيون هم قـوم مِن الأقـوام القاطنة في الجبال، عُرفوا بشدِّة البأس، إتخذ البعضُ منهم قلعـة أربيل مثوى لسكناهم) استغلَّ المسلمون هذا الحدَث وقاموا بضرب الحصار على قلعة أربيل مَسكَن هؤلاء المسيحيين، وكان المحاصِرون مسلمين مِن مُختلف الشعوب، تَجَمَّعوا مِن أجل النهب والسلب والقتل . وقد وقع في أيديهم الميطرابوليط ابراهيم وعددٌ من الكهنة والمؤمنين، قتلوا بعضاً مِنهم وباعوا الآخرين بمبالغ كبيرة جداً. إمتدَّ الحصارُ ما يُقارب الثمانية أشهر إبتداءً مِن شهر شباط وحتى شهر أيلول لعام 1297م، وخلال هذه الفترة قُتل نوروز ولكنَّ أزمة قلعة أربيل لم تَنفرج. ونشر المسلمون إشاعة ً مُلفقـة يزعمون فيها بأن المسيحيين يقتلون أيَّ مسلم يقع بأيديهم وبدون رحمة. وأوصلوا الإشاعة الى الملك غازان وبدوره أرسل الملك الى البطريرك الذي قد أصبح مُرافقاً دائماً للمعسكر إذ لم يبقَ له استقرار في مكان آمِن، يَسأله عن رأيه بفكرتِه في إعطاء مسيحيي قلعة أربيل أراضي وممتلكات في مناطق اخرى لقاء إخلائهم القلعة، فأجاب موفدي الملك بتنهُدٍ مرير قائلاً:<لقد دُمِّرَت ونُهِبَت جميعُ مراكز البطريركية في مراغا وتبريز وهمدان وبغـداد، ولم يبقَ إلا مركز قلعة أربيل مع جَمع ٍ قليل مِن المسيحييـن فيها، وتُريدون تشريد ونهبَ هؤلاء أيضاً. هل لا أمرَ الملكُ بعودتي الى بلادي أو بالذهاب الى بلاد الجورجيين لأنهيَ هناك بقية حَياتي>. ولما أبلغـوا جواب البطريرك الى الملك، تأثَر وأمرَ ببقاء المسيحيين في القلعة، فتدخلت السلطات المغـولية وأجروا الصلح بين المسيحيين والمسلمين. ولكن هل يَسمح التزَمُّتُ الديني الإسلامي أن تَسير الأمورُ مستقِرة؟ ففي هذا الوقت أقنع ناصرالدين صاحب الديوان الملك بإصدار قرار يقضي بأن يؤدي المسيحيون الجزية، وأن يكون تجوالُهم في أسواق بغـداد وهم لابسين الزنار. وتحَمَّلَ المسيحيون هذه الإهانة والسخرية حتى أبعـد الله عنهم هذه المُصيبة.
إصطحب الملكُ غازان البطريركَ يَهبَلاها الى مَقرِّه الشتوي في “موغان” ومِن هناك الى تِبريز، وأمضيا الصيف في المُعسكر، وأمر الملكُ أن يُمنحَ ماريَهبَلاها ختماً شبيهاً بالذي سُلبَ مِنه، وأن يُعادَ إليه اعتبارُه السابق بالكامل. وقام البطريرك عام 1299م بزيارة قلعة أربيل التي لم يَزُرها منذ خمس سنوات مضـت، وأمضى الشتاءَ فيها. ولدى قيام البطريرك بزيارة الملك في مصيفه، سُـرَّ به الملك كثيراً وطلب مِنه العودة الى مراغا، فذهب وامضى الصيفَ فيها بطمأنينة وسـلام. ثمَّ التحَقَ بالملك في خريف عام 1299م في نزوله الى مناطق الموصل وأربيل. وفي تلك الأثناء قاد الملك حملة ًوغادر لمحاربة البلاد الفلسطينية، وبقيَ البطريرك في قلعة أربيل، وما إن عاد الملكُ مُنتصِراً حتى اصطحَب البطريرك معـه الى أذربيجان، وأمر بتشييد دير هناك. وفاجأ الملك ُ البطريركَ بزيارةٍ الى مراغا في خريف عام 1300م وأمضى عِنده ثلاثة أيام، وشمل المسيحيين فـرحٌ عارمٌ بهذه الزيارة الملكية التي زادت مِن ولائهم للملك، والملك بدوره عَبَّر عن رضاه وسرورِه ويقينِه الراسخ مِن محبتهم وإخـلاصهم. وفي نزول الملك الثاني الى مناطـق الموصل وأربيل خلال شتاء 1301م رافقه البطريرك الى أحد المواضع القريبة مِن سنجار، لكنَّ البطريرك عاد الى قلعة أربيل وأمضى الشتاءَ فيها مُنتظراً عودة الملك. وعاد الملكُ وصعد معه البطريرك وفي طريقهما الى مراغا كان كمين ٌ كُردي في المرصاد للبطريرك، فرشقه بسهم أصاب مِنه الإصبع، فتأثر الملك وأقسم على الإنتقام مِن اولئك الأكراد. ولما وصلا الى مراغا، صعدا الى ديرماريوحنا المعمذان ودعا البطريرك إليه بعض الرهبان، وزوَّد الدير بكُلِّ المستلزمات، وبَنى مقرّاً بقربه للبطريرك، وفي احتفال رائع كُرِّسَت الكنيسة في عيد الصليب لعام 1301م. وأمر بجعل قرية “دهابي” الواقعة الى الشرق مِن مراغا التي اشتراها بمبلغ 11 ألـف دينار وقـفاً للدير بالإضافة الى ممتلكات اخرى وبساتين، واطلق عليه اسم “ملك الأديار”.
وما إن انتهى البطريرك مِن أعماله هذه حتى توَجَّهَ الى تبريز للقاء الملك غازان، وحظيَ باستقبال حميم من قبل الملك دلَّت عليه مظاهر التقدير والإكرام البالغـَين التي أحيطَ بها. ولما حان موعد سفر الملكِ الى موغان لتمضية الشتاء كان البطريرك في توديعه، فأشار إليه الملكُ للعودة الى ديره الجديد والإستقرار فيه. ولدى عودة الملك مِن مشتاه في السنة التالية ، ذهب البطريرك للسلام عليه، فلقي مِن الملك إكراماً بالغاً ودعاه للجلوس الى جانبه الأيمَن مُشعِـراً إياه بعطفٍ خاص ومُجزلاً له الهبات والعطايا، فأعرب البطريرك عن شكره الجزيل للملك واستأذنه للعودة الى أربيل ومنها الى بغـداد التي تأخرت زيارتُه لها لمدة تسع سنوات وامضى في أربيل بقية عام 1302م وفي نهايته غادرها الى بغداد فوصلها عشية عيد الدنح لعام 1303م وترأس الإحتفال بالعيد في كنيسة دارالروم في غمرة فرح ٍ كبيرعَـمَّ الجماهير المسيحية، وبعد ثلاثة أسابيع قصد مدينة الحلة لملاقاة الملك غازان وتهنئتِه بيوم عيد المغول الأبيض (سُمُّيَ بالأبيض لأن كُلِّ المحتفـلين به يرتدون ثياباً بيضاء) والذي يقع في الأول مِن شباطـ ، تلقاه الملك بحفاوة كبيرة، وبعد بضعة أيام إستأذن الملكَ بالعودة الى بغـداد، فودَّعه الملكُ بعد نفحِه بعطايا جزيلة مستجيباً لكُلِّ مطاليبه. وأمضى البطريرك الشتاء في بغداد على أن يغادرها بعد عيد القيامة.
في العاشر مِن نيسان 1303م غادر البطريرك بغداد قاصداً مراغا فوصلها في الثالث عشر مِن أيار، واستقرَّ في مقرِّه بجانب الدير، ولم يمضِ عليه شهرٌ حتى فاجأهُ الملكُ غازان بزيارةٍ للدير، فاستقبله البطريرك بحفاوة منقطعة النظير وأقام له وليمة كبرى، حضرها الملوكُ والأمراءُ وكبارُ زعماء المملكة سادتها البهجة والفـرح، وبدا الملكُ في غاية الإنشراح غامراً البطريرك بكُل ما اوتي مِن مظاهر اللطف، حتى أنَّه خلع حُلَّته الملكية وألبسه إياها. وأخلد الملكُ الى النوم ورأى حُلماً وكأنه قـد تعافـى مِن داء المفاصل الذي كان مُلازماً له، وعندما استيقظـ صباحاً قصَّ على البطريرك حُلمَه، وفي ذات الوقت قدَّمَ له هـدية ً صليباً ذهبياً مُرَصَّعاً بالجواهر وبداخله جـزء مِن عود الصليب المقدس كان قد أرسله له البابا نيكولاؤس الرابع، وأمضى النهار وقد فارقه داءُ المفاصل بالفعل، ثمَّ رحل الى “موغان” وبعد وصوله أرسل للبطريرك حصاناً أصيلاً أسود اللون مع هـدايا غالية اخرى. ونزل البطريرك الى قلعة أربيل لقضاء الشتاء فيها، ثمَّ عاد الى مراغا ووصلها مساء عيد العنصرة، وبعد ثلاثلة أيام مِن وصوله أبلغَ بنبأ موت الملك غازان حيث وافاه الأجَل في يوم عيد العنصرة مساءً على حدود ساهند، وتمَّ نقل جثمانه الى تبريز ودُفن في قبر بالقبة الكبيرة التي كان قـد بناها هو نفسه.
وكما مَرَّ بنا القول بأنَّ غازان بعـد توَلّيه الحُكم كسلطان أكبر، أسلم وأصدر قراراً بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وتلاه قطع علاقاته ببَلاط الخاقان الأعظم للمغول في الصين. وباشرَغازانُ بالقيام بعددٍ مِن الإصلاحات شملت الشؤون الإدارية والمالية والإقتصادية والقضائية والعُـمرانية. وكان غازانُ أيضاً ذا مَيل ٍ الى الثقافة والمعرفة مُغـرَماً بالتاريخ وقد أتقنَ اللغـة الفارسية وكان شخصياً قـد اكتسبَ ثقافة ًعالية وبإمكانه التحَدُّث بعدة لُغات. وفي فترةٍ مِن حَياتِه إشتغل في حَقل الكيمياء حيث كان له مَصنعٌ داخل قصـره صارفاً فيه وقتاً طويلاً بين كُتبه وتجارُبه، وفضلاً عَن مشاغله لم يتقاعس عن تجميل عاصمة مملكته تِبريز بأبنيةٍ فخمة كدار للكُتب وأخرى لحِفظـ الدفاتر والقوانين التي سَـنَّها ، كما شيَّدَ مَرصَداً فـلكياً ومستشفـى وسَيَّج أرضاً واسعة وجعل مِنها بستاناً. خاض غازان حروباً مع المماليك للسيطرة على بلادالشام، وكانت له غارات على خانات الكاغتاي دفاعاً عن حدود خانات الإيلخان .
وبالنسبة الى المسيحيين في عهد السلطان غازان لم تأتِ الإشارة مِن قبل المؤرخين الى البارزين مِنهـم، وهو دليل على أنَّ التهميش قد شملهم، إلا أننا نقرأ في (تاريخ العـراق بين احتلالـَين ج3 / لعـباس العـزاوي ص 25 مِن الملحـق الثاني) حيث يُشير الى اشتهار حاكم الموصل في هذا العهد وهوالملقب ” فخر الدولة أبو محمد ابراهيم بن عيسى بن هبة الله النصراني الموصلي” كان انموذجاً في السخاء والكـرم، وكان مجلسُه مَقصد الأدباء والعلماء والشعـراء، يُحسِنُ استقبالهم ويُنعِـم عليهم. قضى غازان نحبه عام 1304م وهو في حدود قزوين عَن عمر لم يتعدَّ الثلاثة ً والثلاثين عاماً، ونُقـلَ جثمانه الى عاصمة مُلكه تبريز ليُدفن فيها، وجُعلَ قبرُه ظاهراً خلافاً لعادة المغول الذين كانوا لا يُظهرون قبورَهم. والى الجزء السابع والعشرين قريباً.
7– اولجايتو 1304 – 1316م
عـملاً بتوصية غازان بأن يخلِفه على العرش أخوه اولجايتو، فقد نُفِّذت رغبتُه، واعتلى اولجايتو العرشَ الإيلخاني في 31 تموز عام 1304م كسابع سُلطان إيلخاني وكان عُمرُه دون الرابعة والعشرين، وعلى غِرار شقيقه غازان كان اولجايتو قد تعَمذ وسُمّيَ بالعماذ نيكولاس ونما وترعرعَ كمسيحيٍّ، وكان البطريركُ ماريَهبَلاها يكنُّ معـزَّة ً له ولأمه “اركو خاتون” المسيحية، وفرح باعتلاءِ اولجايتو العرش، مُتوقعاً مِنه الخيرَ الكثيرَ للمسيحيين، ولكن أمله خابَ عندما شاهدَ اولجايتو قد وقع هو أيضاً كأخيه غازان بشرك الإسلام واتخذ اسم “محمد خدَبندة” ويُقال أيضاً “خربندة” متبنياً المذهـب الشيعي. جاء في (تاريخ الغـياثي ص 54) بأنَّ اولجايتو وقتذاك كان في خُـرَسان، وتشاورَ الأمراءُ أن يولوا المُلكَ بسطام بن غازان فكتبوا إليه سِـرّا طالبين قدومه إليهم ، بيد أنَ الرسالة وقعت بيد خدَبندة، فأوعـزَ بقتل بسطام فوراً، فخَلت له الساحة وقبضَ على زمام الأمور. كانت الأمورُ الإدارية في الدوائر الحُكومية في السنوات الأخيرة لحكم غازان قد سادها الإضطرابُ والفوضى بخلاف ما يَدَّعيه الكتّابُ المسلمون المعاصرون بأنها كانت على ما يُرام مِن الإنضباطـ والتقدم، فباشر السلطان الجديد اولجايتو بتنظيمها، ثم إلتَفتَ الى حلِّ المشاكل القائمة وتمَكَّن مِن القضاء على القلاقل والثورات التي كانت قـد برزت في عددٍ مِن مناطق المملكة.
واصلَ اولجايتو إنتهاجَ سياسة أخيه غازان خان في حُسن معاملة رعاياه مُقيماً العدلَ بينهم بانتصاره للمظلومين وكبح ِ جماح ِ الظالِمين، ولم يُجر ِ تغـييراً بين الأمراء والمؤظفين حيث أبقاهم في مناصبهم. وفي سنة حُكمه الأولى وُلدَ له وَلدٌ سمّاه “علاء الدين أبا سعيد بهادر” وسيتوَلّى السلطة مستقبلاً خلفاً لأَبيه. يَروي عباس العزاوي في (تاريخ العـراق بين احتلالـَيـن ج1 ص 407) بأن اولجايتو كان لغاية عام 1307م مُراعياً للتذكير بالخلفاء الراشدين بدون تمييز مِن حيث الإحترام والتبجيل وصكِّ النقود بأسمائهم، إلا أنه بعـد هذا التاريخ مال الى الشعار الشيعي وإظهاره بشكل ٍ جَلي. وبالنسبة لسياسته الخارجية كان إقليمُ جيلان عَصيّاً على المَغول فتحَه، ولكنَّ اولجايتو استطاع فتحَه وإخضاعـه لسيطرته. لقد ساءَت العـلاقاتُ بينه وبين السلطان “الناصر محمد بن قـلاؤون” سلطان دولة المماليك منذ تحوُّلِه الى المذهب الشيعي وكان أولَ حاكم مغولي يعتنق المذهب الشيعي، فغدا هذا الأمرُعائقاً حال دون تحسين العلاقات بين الدولتين، بل شابَها التأزمُ دفع باولجايتو لإحتلال بلاد الشام التي كانت تحت سيطرة المماليك، لكنه أقلعَ عَـن ذلك لإخفاقه في اقتحام أول قلعةٍ هاجمها هي قلعة الرحبة الواقعـة على الفرات، فـقرَّر العودة الى بلاده ولم يُحاول غـزوَ الشام ثانية.
إهتمَّ اولجايتو بتشييد مؤسساتٍ اجتماعية إضافية تُساعد المواطنين على النهوض والتقدُّم كالمدارس والمستشفيات والملاجيء وغـيرها، وقام بتشييد مَرصد مراغـة الذي كان قد بناه هولاكو، كما حَققَ امنية أخيه غازان الذي كان يطمح الى بناء مدينة “السلطانية” في المنطقة الغربية مِن ايران الواقعة بين نهري زبخان وأبهر، وما إن بدأ بتنفيذ المشروع حتى عاجله الأَجَل المحتوم. إستكملَ اولجايتو ما بدأَه أخوه وانتهى مِن تشييد المدينة وقد إستغرق ذلك مدة عشر سنوات 1304- 1314م كانت مدينة عظيمة ضَمَّت بنايات فخمة، ويقول عباس العـزاوي (تاريخ العراق بين احتلالين ج1 ص 422) بأن اولجايتو شيَد له فيها داراً جميلة كانت مواد بنائها الطابوق الذهبي والفضي، أحاطها بالبساتين، وملأَها بالجواري والغـلمان تشبيهاً بجنَّة الإسلام، أسرف السلطان في انتهاك حُرُمات قـومه. تُوفيَ اولجايتو بداءِ الهيضة في 16 كانون الأول عام 1316م وهو في السادسة والثلاثين مِن عُمره، ودُفنَ في الضريح الذي بناه لنفسه في السلطانية.
أحسنت وبارك الله فيك أخي العزيز
السيد لؤي فرنسيس المحترم، أؤيد الاخوة اعلاه واريد اضافة شيء الا وهو ان منطقة سهل نينوى التي يكثر فيها المسيحيين…
الأعزاء أودا و فرج اسمرو المحترمين نعزيكم بوفاة المرحومة المغفور لها شقيقتكم إلى الأخدار السماوية، أسكنها الله فسيح جناته الرحمة…
الراحة الابدية اعطها يا رب و نورك الدائم فليشرق عليها. الله يرحم خلتي مكو الانسانة المحبة طيبة القلب. مثواها الجنة…
Beautiful celebration Congratulations! May God bless Oscar and bless his parents and all the family and relatives