“أكيتو” .. عيد الربيع البابلي ، جذوره ، أيامه ، عائديتهِ . الحكيم البابلي – طلعت ميشو
لم تكن أحاسيس وعواطف وأفراح سكان العالم القديم تختلف عما لدينا اليوم من مشاعر حين قدوم الربيع والخضرة والزرع والورود والثمار والنسيم المنعش المُعطر بروائح الزهور البرية التي تملأ الوديان والجبال والسهول والمراعي الخضراء التي ستطعم كل الكائنات الحية ، لِذا نعلم بديهياً أن كل شعوب العالم لا بد قد إحتفلت بقدوم الربيع بشكل من الأشكال .
تبدأ حكاية أعياد الربيع في أرض الرافدين منذ أزمنة بعيدة يقول بعض العلماء والمؤرخين أنها تقع بين ( الألف الرابع والخامس ق . م ) ، وبعض المصادر تقول أن السومريين والساميين إحتفلوا به منذ عصر ( أريدو -5300 ق. م ) وبالذات في جنوب بلاد ما بين النهرين وبإسم ( زاكموك Zag-mug ) . وكان يُحتفل به مرتين في العام الواحد ، في الربيع والخريف .
أما الساميون الذين سكنوا العراق القديم قبل وأثناء وبعد السومريين فقد إختاروا له تسمية ( أكيتو ) وتعني : ( الحياة ) والمشتقة من تسمية أقدم هي :
( a-ki-ti-se-gur-ku ) .
كلمة أكيتو كانت تسمى أو تُلفظ عند بعض الساميين ( حِجتو ) وذلك في اللغة الأكدية والعربية لاحقاً ، أما في اللغة السريانية الآرامية فلا تزال كلمة ( حج ) تعني الإحتفال أو الحفلة . وفي اللغة البابلية القديمة كانوا يسمون هذا العيد ( ريش شاتم ) ، ريش تعني : رأس ، و شاتم تعني : سنة . وفي لغة ( السورث ) المحكية لحد اليوم في العراق من قِبَل الكلدان لا نزال نقول : ( ريش شاتة ) رأس السنة ، لاحظ تقارب هذه الألفاظ مع العربية !!.
هذا العيد كان معروفاً منذ الأزمنة العتيقة لبلاد ما بين النهرين في مدن مثل ( أريدو ، أور ، لجش ، كيش ، أوروك ) ، وكما ذكرنا كان واحداً من عيدين رئيسيين ( زاكموك وأكيتو ) . زاكموك هو عيد الإحتفال بحصاد الشعير ، كذلك هو عيد الإعتدال الخريفي المتزامن مع موسم قطف التمور ، وكان الإحتفال به يجري في الخامس عشر من شهر أيلول من كل عام ، ويرمز لقدسية نخلة بلاد الرافدين ولتجدد وخصب الأرض المتمثلة بشعائر الجنس في ( الزواج المقدس ) ورمزه الإله السومري ( دموزي ) وزوجته ( أنانا ) واللذين تم إقتباسهما في شخصية الإله ( تموز ) وزوجته ( عشتار ) عند البابليين ، ولاحقاً تم الإستعاضة عنهما في شخصية الإله ( مردوخ ) وزوجته ( صربانيتوم ) أثناء الإحتفال بعيد الأكيتو في بابل .
كان أكيتو في جذوره القديمة الأولى عيداً شعبياً لجز صوف الماشية والأغنام ، وكان يُحتَفَل به بين شهري آذار ونيسان ، ويُمثل رأس السنة الجديدة ( الإعتدال الربيعي ) ، ثم أصبح من المتعارف عليه الإحتفال بهِ في اليوم الأول من شهر نيسان كل عام في إقليميَ الوسط والجنوب من بلاد النهرين ، بينما لا توجد دلائل على معرفة هذا العيد في الأقليم
الشمالي ( آشور ) قبل سنة ( 1200 ق . م ) ، وذلك حين قام الملك الآشوري ( تيكولتي نينورتا الأول 1214 – 1208 ق . م ) بعد غزوه وتدميره لمدينة بابل بسرقة تمثال الإله مردوخ ونقلهِ ضمن غنائم الحرب إلى بلاد آشور في شمال العراق ، مما حفز الشعب الآشوري على الإحتفال بهذا العيد لأول مرة إقتداءً وتقليداً لإحتفالات البابليين به .
وحول هذه النقطة يقول الكاتب الآثاري ( هاري ساكز ) في كتابه ( قوة آشور ) : [ كانت بلاد بابل مصدر ومركز حضارة بلاد الرافدين ، وكانت العاصمة بابل مركزاً دينياً ذا قداسة كبيرة ، وإن سلب ونهب بابل في العالم القديم يمكن تشبيهه بسلب الفاتيكان أو القدس أو مكة في وقتنا هذا ] إنتهى .
في مطلع ( الألف الثاني ق . م ) ( 1894 – 1595 ق . م ) زمن السلالة العمورية البابلية الأولى ( سلالة الملك والمُشَرِع حمورابي الذي كان سادس ملوكها ) تم إلغاء الإحتفال بعيد ( زاكموك ) ، وإقتصرت الإحتفالات على عيد الأكيتو فقط .
وهكذا راح البابليون يحتفلون بعيد الأكيتو في اليوم الأول من شهر نيسان ( نيسانو ) والذي يعني : العلامة ، وفي العربية ( نيشان ) لأنها العلامة أو النيشان على حلول فصل الربيع والإعلان عن ولادة الحياة ورمزاً للخصب وحَبَل الأرض بكل ما هو أخضر .. وهو لون الحياة .
كان الإحتفال بهذا العيد يستمر لمدة ( 11) يوماً متواصلة ، وقد يسأل القارئ عن : لماذا الرقم ( 11 ) في عدد أيام الإحتفال هذا !، والجواب مشروح بدقة في مقال للكاتب والمؤرخ المعاصر السيد ( حبيب حنونا ) والمنشور في مجلة ( المنتدى ) التي كانت تصدر في مشيكان لأكثر من (35) سنة ، العدد 33 لسنة 1998 حيث يقول الكاتب ( بإختصار وتصرف ) : [ لاحَظَ الإنسان في بادئ الأمر أن دورات الطقس والمناخ تتكرر وتُعيد نفسها كل إثني عشر دورة من دورات القمر تقريباً ، فسمى تلك الفترة ( سنة . سنتة . شنتة ) إكراماً لإله القمر ( سن ) ، فقسموها إلى أربعة فصول وسموها بمسمياتها : ( الربيع ) وهو أول فصول السنة وكرسوه للإله ( مردوخ ) الإله الحكيم ورب الكون . يليه فصل ( الصيف ) وكرسوه للإله ( ننورتا ) إله الرياح الجنوبية ورب القنوات والسدود والري ، ثم فصل ( الخريف ) وكرسوه للإله ( نابو ) إله الكتابة والحكمة وإبن الإله مردوخ ، ثم فصل ( الشتاء ) وكرسوه للإله ( نركال أو نرجال ) وهو إله الموت والعالم الأسفل ، معتقدين أن الشمس تكون في منازل تلك الآلهة خلال تلك الفصول .
أما الأشهر الأثني عشر فكانت أشهراً قمرية يبدأ كل منها مع ميلاد قمر جديد ، وإعتبروا الأول من نيسان هو عيد رأس السنة ، لكنهم أدركوا بعد فترة زمنية طويلة أن عيد رأس السنة الذي إعتادوا أن يحتفلوا به في الربيع بدأ يتراجع تدريجياً إلى الوراء بحيث أصبح يقع ضمن فصل الشتاء !!، ثم بعد فترة زمنية أخرى أصبح يقع ضمن فصل الخريف !!، وإستنتجوا من كل ذلك أن الطقس والمناخ تتحكم به منازل الشمس في الكون ، وإن دورات القمر ليست لها علاقة بذلك ، وأن السنة القمرية لا تتطابق مع السنة الشمسية ، وأن هناك إختلاف بينهما هو أحد عشر يوماً ، ومن أجل أن تتناغم الفصول التي تتحكم بها الشمس مع التقويم القمري ، أعادوا صياغة التقويم القمري بإضافة أحد عشر يوماً ما بين نهاية شهر آذار وبداية شهر نيسان ، وأصبحوا يحتفلون بتلك الفترة كرأس أو بداية للسنة الجديدة .
ثم بعدها أدخلوا شهراً إضافياً بعد كل ثلاثة سنوات قمرية ، فإعتبروا السنة الرابعة ذات ثلاثة عشر شهراً ، لكي يكون التقويمان الشمسي والقمري متكافئين ( ولا يزال اليهود لحد الأن يستعملون مثل هذا التقويم الذي إقتبسوه من البابليين أثناء تواجدهم في الأسر ) !.
وبعد أن شاع إستعمال التقويم المُعَدَل أخذ سكان ( بيث نهرين ) يحتفلون بعيد رأس السنة في الأول من نيسان من كل عام ولغاية الحادي عشر منه ، وكانت البداية في بابل ، ولهذا أطلقوا عليها تسمية ( السنة البابلية ) ، ومن بابل إنتقلت إلى ( آشور ) ثم شاعت في كل المدن الرئيسية في بلاد الرافدين ، لا بل تعدت إلى أقوام وشعوب أخرى في المنطقة في عهودٍ لاحقة ، مثل الفرس والأكراد الذين يحتفلون بعيد نوروز في الحادي والعشرين من شهر آذار ( وهو الأول من نيسان حسب التقويم البابلي الأول ) . وفي العراق كانت السنة المالية حتى عهد قريب تبدأ في الأول من نيسان .
لا نعلم بالضبط تأريخ أول مهرجان من مهرجانات رأس السنة ، إلا أنه كان يُحتَفل بهِ في بدايات الألف الثالث قبل الميلاد إستناداً إلى ما ورد في بعض المدونات السومرية ] إنتهى الإقتباس .
لا زال النظام القديم للسنة الرافدية موجوداً في تكوين ( الأبراج ) الذي أوجدهُ البابليون ، لهذا نرى أن برج ( الحمل – نيسان ) هو أول الأشهر والأبراج في شهور السنة البابلية .
إستمر البابليون يحتفلون بعيد أكيتو حتى بعد سقوط الدولة الكلدانية الوطنية الأخيرة في بابل على يد قورش الفارسي سنة ( 539 ق. م ) ، والمؤسف أنه عبر مئات السنين وما وصل إليه حال العراق بين مد وجزر الغزوات والإحتلالات وأنواع التسلط الدولي والإستعماري والنكبات من كل نوع ، ضاع معنى عيد الأكيتو ، وكان يُحتفل به بصورة خاصة ومتواضعة قد تكون في بعض السنوات الحبلى بالظلم شبه معدومة !. علماً أن بعض الحكومات الإسلامية في تأريخ العراق كانت قد حَرَمَت وَمنعَت الإحتفال بهِ لإعتبارهِ عيداً وثنياً !. بينما إستمر الإحتفال به عند أقوام أخرى مثل الفرس والأكراد رغم إسلامهم !!، وكما يعرف الجميع فإن مسألة التحليل والتحريم تأخذ دائماً
الصفة الإنتقائية والمزاجية في سلوك الدولة الإسلامية ، لِذا شاعت تسمية ( نوروز ونيروز ) بينما إختفت تسمية ( اكيتو ) وإقتصرت على مسيحيي العراق والشام من السكان
الأصليين الذين أصبحوا قلة قومية ودينية مقموعة ومُهمشة ومُحاربة مما أدى إلى إنكماش وضمور في أغلب ما يخص كيانهم وحجمهم .
كانت الإحتفالات بهذا العيد تجري في كل المدن التابعة للدولة البابلية يومذاك ، وأضحت من الأهمية والضخامة بحيث كانت تُقام في كل معابد الدولة البابلية التي وصل عددها في زمن الملك الكلداني نبوخذ نصر إلى (1179) معبداً دينياً !. لكن أهم الإحتفالات كانت تلك التي تجري في العاصمة بابل وبعدها تنتقل إلى بقية المدن التابعة للدولة البابلية .
أحياناً كان يُلغى هذا العيد ولا يُحتفل بهِ في بعض السنوات ، بسبب الحروب أو إحتلال العدو للبلاد أو غياب الملك أو غياب الإله مردوخ الذي تم سرقته ونقله لعدة سنوات إلى بلاد آشور بعد أن قام الآشوريون بغزو بابل ، لهذا كانت سنوات من هذا القبيل بمثابة كارثة قومية ووطنية للبلاد !.
قبل الخوض في تفاصيل وطقوس هذا العيد سنلقي الضوء على بعض التفاصيل والأمور المعرفية التي لها علاقة بعيد الأكيتو :
* الإله مردوخ البابلي :
هو الإله الوطني لبلاد بابل وشفيعها ، ولَقَبهُ ( الخنشا ) أي : صاحب الأسماء الخمسين التي خلعتها عليهِ الآلِهة بعد إنتصاره على التنين الأنثى تيامات التي كانت تُمثل الفوضى الكونية .
مردوخ هو إبن الإله الَذكَر ( أيا ) والإلهة الأنثى ( ذامكينا ) ، وزوجته هي الإلهة ( صربانيتوم ) ويعني إسمها : الفضية . أما إبنه فهو الإله الشاب ( نابو ) إله الحكمة والكتابة .
مردوخ كان يُلفظ في الأكدية ( مار دوكو ) ، ويفسره بعض الآثاريين إلى ( مار ) وتعني : السيد ، و ( دوكو ) بمعنى : الكون ، أي ( سيد الكون ) ، ونلاحظ أن كلمة ( مار ) لا زالت مستعملة عند مسيحيي العراق والشام كلقب للقديسين والأساقفة والمطارنة ، كقولنا : ( مار ابراهيم ) بمعنى ( سيدنا ابراهيم ) و ( مار بطرس ) بمعنى ( القديس بطرس ) وهكذا .
يُمثل الإله مردوخ كوكب ( المشتري – جوبيتر ) وسماه البابليون ( نبيرو ) ، ويعني في اللغة البابلية : ( المعبر ) ، وهو واحد من أسمائهِ الخمسين ، أما حارس مردوخ فكانت الأفعى الحمراء شروشو . ورمز مردوخ هو الثور، واسم مردوخ يعني : ( عجل الشمس ) ، ويُمثل مردوخ رب الأرباب وسيد السماء والأرض وملك كل الآلهة .
في الطقوس الدينية البابلية لم يكن أحد يجرؤ على مناداته بإسم ( مردوخ ) لقداستهِ !، بل كانوا ينادونه ( بيل أو بيلي ) وهي لفظة أكدية تعني “الرب” أو “السيد” سيدي ، وكانوا يُنادون زوجته صربانيتوم ( بيليتيا أو بيليثا ) أي : سيدتي .
يظهر مردوخ في تماثيله وهو يحمل ( العصا والدائرة ) ويرمزان للحياة والقدرة على منحهما ، كذلك يرمزان لحيازة السيادة على مجتمعين ونظامين : الرعوي الذكوري والزراعي الأمومي ، فالعصا تُمثل عضو الذكورة ، والحلقة تُمثل فرج الأنثى .
ولا زال الأحبار المسيحيين الرعاة من الأساقفة والمطارين في العراق يستعملون عصا في نهايتها العليا دائرة ، وهي رمز القيادة وعلامة الراعي ، ونلاحظ هنا عمق التواصل التأريخي في موروثات بلاد ما بين النهرين .
يقول الرحالة والمؤرخ ( هيرودوتس ) أنه يُقدر وزن تمثال الإله مردوخ الذي كان في الطابق السفلي من برج أو زقورة بابل بِ ( 26 طناً ) من الذهب الخالص !!!، وقد رآه بعينهِ سنة ( 458 ق . م ) !!. وأعتقد شخصياً أن هناك نوع من المبالغة في هذه المعلومة .
أما مهجع الإله مردوخ في الطابق العلوي ( الأنتمينكي ) من الزقورة البابلية التابعة لهيكل مردوخ فلم يكن يضم أي تمثال له ، وفيه دائماً إمرأة فائقة الجمال لخدمته !، ولم يكن يحق لأحد الدخول في ذلك البرج العلوي . وكانت مسيرات إحتفالات الأعياد وخاصةً الأكيتو تطوف حول البرج ، كذلك كان يفعل الحجاج الذين يزورونه من كل أطراف المملكة البابلية . وهذا يُذكرنا بحج وطواف المسلمين حول الكعبة !!.
الإله البابلي تموز :
إسمه السومري ( دموزي ) وعند البابليين الساميين ( تموز ) ، وهو مثل زوجته عشتار كان إلهاً للخصب وتجديد الحياة .
واحدة من أسباب شهرته وعبادته يومذاك كانت بسبب زواجهِ من الآلِهة عشتار ( الزهرة – نجمة الصباح ) آلهة الجمال والجنس والإخصاب والحب والعشق والشبق والحرب أيضاً ، والتي قامت كل الشعوب والأقوام القديمة بإقتباس شخصيتها وعبادتها وأعطوها تسميات محلية مختلفة ، لكنها تبقى في الأصل عشتار البابلية وإينانا السومرية .
و”إكراماً للإله تموز ، جعلوا من إسمه شهراً من أشهر السنة في التقويم الأكادي ، وهو الشهر الرابع من السنة السامية القديمة التي كانت تبدأ بشهر نيسان” .
اسطورة الإله تموز من ضمن الأساطير التي تتناول الموت المؤقت لبعض الآلِهة ، والتي ترمز لدورة الطبيعة السنوية عبر فصولها التي تتماوت في الشتاء لكنها لا تموت .. كما هي الآلِهة أو كما في حالة الإله تموز ، وكان لمثل هذه الأساطير وقع درامي مؤثر جداً على شعوب العالم القديم ، وربما كانت بعضها المُحَفِز الرئيسي لظهور المسرح في العراق القديم ، كونها تتزاحم وتضج بشخوص الصراع الدرامي !. لكل ذلك يعتقد البعض أن المسرح البابلي هو أقدم مسارح العالم ، ومنهُ بالذات أخذَ المسرح اليوناني القديم بداياتهِ الدرامية ال ( ديونسيوسية ) .
قصيدة أسطورة الخلق البابلية :
عنوانها البابلي هو ( إينوما إيليش ) وتعني ( عندما في الأعالي ) .
تدور أكثر حوادث هذه الأسطورة الشعرية حول الإله مردوخ وكيف أصبح أعظم كل الآلهة .
مُختصر أسطورة الخلق البابلية :
تتكون هذه الأسطورة الشعرية من نحو الف بيت جاءت في سبعة الواح نختصرها كما يلي :
(( في الأصل لم يكن هناك سماء ولا أرض ، فقط ( كاوس ) محيط الماء والفوضى الأولية والعماء الكوني والركود والصمت والخواء ، وإلهين قديمين بِدائِيَين هما ( أبسو ) الإله الذَكَر للمياه العذبة ، و( تيامات ) الآلهة الأنثى ( التنين أو الهولة ) للمياه المالحة وحاملة لوح المصائر ، ونتيجة لتزاوج هذين الإلهين فقد وُلد أول زوجين من الآلهة ( لخمو ولخامو ) اللذان ولدا ( أنشار وكيشار ) ، وهذان أنجبا الإله ( آن ) أو ( أنو ) الذي أولد الإله ( أيا ) على صورته .
يقوم الإله ( أيا ) بالقضاء على جَده الإله ( أبسو ) لأن أبسو أراد تدمير نسل الآلِهة الشابة من أحفادهِ بسبب ضجيجهم الذي بدأ يُزعجه وزوجته تيامات ، ثم من نسل ( أيا ) يولد الإله العظيم ( مردوخ ) .
بعدها تقوم الإلهة ( تيامات ) بإحداث ثورة عنيفة ضد كل الآلهة إنتقاماً لزوجها ( أبسو ) ، ولإنها أساساً كان قد أغضبها وأقلق راحتها صخب تلك الآلهة الشابة من أحفادها ، لِذا قررت إفناءهم وإستئصال نسلهم ومن ثم التنعم بالراحة !، وتروح تُحضر لمعركة فاصلة كبرى وتقوم بولادة جيش ( 12 وحشاً ) من نوعية الآلِهة الفاتكة الكاسرة المخيفة !!، فيخاف الإله ( أيا ) وكذلك ( أنكي ) ويتراجعان ويرفضان خوض الصراع والحرب ضد ( تيامات ) !، وهنا يبرز دور الإله الشاب ( مردوخ ) الذي يتطوع للحرب بغية الحصول على السلطة العليا في مجمع الآلِهة .
يتسلح مردوخ بالقوس والسهام والمطرقة الإلهية والبرق والشبكة والطوفان والرياح الأربعة .
يجري النزال الكوني الرهيب بين مردوخ وتيامات ، وبعد عدد من المناوشات المخيفة الخطيرة والكر والفر ينتصر مردوخ ، ويقوم بتشتيت وقتل جيش التنينة تيامات وسجن من تبقى منهم ، ثم يشق جسد تيامات نصفين “كما تُشق الصدفة” ليخلق نظاماً كونياً تكون السيادة فيهِ للذَكَر ، ويصنعُ السماء وقبتها المُرصعة بالنجوم من نصف جسد تيامات العلوي ، ومن النصف الآخر يصنع الأرض ، ثم يروح يُنظم عالم الآلهة والكون ، و يُتابع عمليات الخلق الأخرى .
لكل ذلك يقوم مجمع الآلِهة بتتويجهِ سيداً على الآلِهة السماوية وعلى الأرض ، ويتنازل له خمسون إلهاً عن أسمائهم وصفاتهم وقدراتهم )).
ملاحظة : هناك ترجمتان لقصيدة الخلق البابلية ، واحدة – وهي الأقدم -للدكتور الراحل طه باقر ، والثانية لثنائي الأب البير أبونا والدكتور وليد الجادر .
==========
* فعاليات أيام عيد الأكيتو البابلي :
الأيام الأربعة الأولى كانت مُخصصة لطقوس الحزن وتطهير وتنظيف المعابد وهي طقوس في غاية الدقة والأهمية ، لأن المجتمع البابلي كان يعتقد ويؤمن أن إهمال الطهارة والنظافة أمرٌ بالغ الخطورة وقد يفسح المجال لدخول وتسرب الكثير من العفاريت الشريرة وتسلطها على البشر والكائنات الحية . وربما كانت فكرة بدائية أولية عن الجراثيم والفيروسات !!.
قبل فجر اليوم الثاني يحضر الكاهن الأعلى ( شيشكالو ) إلى معبد الإله مردوخ ( الإيساكيلا – البيت الشامخ ) ، وبعد أن يغتسل بخزين ماء النهرين العظيمين دجلة والفرات يؤدي صلاته الخاصة أمام تمثال مردوخ ثم يسمح لبقية الكهنة بالدخول للقيام بواجباتهم الدينية المختلفة وتقديم الصلوات والإبتهالات للإله العظيم .
في اليوم الثالث يأتي الكثير من الحرفيين ( نجارين وحدادين وصباغين وصاغة ذهب وفضة ) لعمل تماثيل وعربات ورموز مختلفة لخدمة الإحتفالات كما نفعل اليوم بالضبط في التحضير لمهرجاناتنا وكرنفالاتنا الوطنية والدينية الشعبية .
في اليوم الرابع يُعلِن الكاهن الأكبر ( الشيشكالو ) بدء الإحتفالات الشعبية الكرنفالية الرسمية العامة ، ويقوم مع جوق الممثلين والممثلات ( موميلو وموميلتو ) بقراءة أحداث قصة الخلق وتفاصيلها المؤثرة .
بعدها يتسلم الملك صولجانه من الكاهن الأكبر ، ويذهب إلى مدينة ( بورسيبا ) حيث يعيش الإله ( نابو ) إبن الإله مردوخ ، وهي على مبعدة ( 17 كلم ) من بابل ، حيث يقضي ليلة واحدة في ( أي زيدا ) وهو معبد الإله ( نابو ) ، وفي الصباح يطلب مساعدة الإله ( نابو ) في مهمة تحرير أبيهِ الإله ( مردوخ ) من أسرهِ وأغلالهِ في عالم الظلام الكوني ، ويدعوه للمجيء معه إلى بابل .
ملاحظة : الإله ( نابو أو نبو ) كان الإله القومي للكلدان ، ونسبة إليه وتيمناً بإسمه تسمى عدد من ملوكهم ، مثال : ( نبو نصر ) و ( نبو بلاصر ) و ( نبوخذ نصر ) .
في فجر اليوم الخامس المسمى بيوم ( التكفير ) ، ينهض رئيس الكهنة منذ الصباح الباكر ، ويتطهر بالماء المقدس لدجلة والفرات المحفوظ داخل المعبد، ثم يفتح أبواب المعبد لبقية الكهنة ليقوموا بتقديم وجبة الفطور لتمثالَي الإله مردوخ وزوجتهِ صربانيتوم .
بعد تقديم الصلوات والقرابين يقوم الكهنة بحمل مشاعل ومحارق الطيب لتطييب وتطهير أجواء المعبد ، كذلك تجري طقوس تطهير المعبد بماء دجلة والفرات ، ثم تقرع الطبول وتتعالى أصوات الكهنة في دعاء جماعي مهيب ، وتوقد المجامر والمباخر وتُنار أرجاء المعبد ، ويقوم فريق خاص من الكهنة بمسح أبواب المعبد المقدس بزيت السدر ( النبق ) .
ثم يقومون بذبح شاة والطواف بها في أرجاء المعبد ، ثم مسح جدران المعبد المقدس بدمها ، وهو نوع من الإعتقاد يُسمى ( الإستبدال أو البديل “بوخو” ) ويعتبر من الفروض الأساسية للتعزيم ، ويُعَبِرُ عن عملية إنتقال الذنوب البشرية إلى جسد الشاة المذبوحة ، والتي سيتم فيما بعد رميها لماء النهر الجاري الذي سيجرفها ويجرف معها كل ذنوب السنة المنصرمة وما حملت من مساوئ وأوزار وخطايا وذنوب !.
وعلى غرار ذلك فعل اليهود لاحقاً كإقتباس من بابل ، حيث كانوا يسوقون كبش فدائهم إلى الصحراء ويقومون بقذفهِ من مرتفع ما في عيد الكفارة ، وكما في عيد الأكيتو البابلي ، كان يستغرق عيد ( الفصح ) اليهودي أحد عشر يوماً أيضاً !.
بعدها يصل الملك إلى بابل قادماً من مدينة بورسيبا وبصحبتهِ الإله ( نابو ) حيث سيتركه عند بوابة ( أُوراش ) في الجانب الجنوبي الشرقي ، ويتوجه لوحدهِ إلى بوابة معبد الإيساكيلا ، حيث يقوم رئيس الكهنة بنزع كل شاراتهِ الملكية مؤقتاً ، وهي ( التاج والصولجان والحلقة والسيف ) .
داخل المعبد ينحني الملك بكل تواضع ورضِا لكبير الكهنة ( الشيشكالو ) الذي يصفعه بقوة على خدهِ ، ثم يسحبه بشدة من كلتا أذنيه ويُجبره على الركوع أرضاً أمام مذبح الإله مردوخ !، ويقوم الملك – روتين سنوي – بتقديم إعترافهِ أمام الإله مردوخ مؤكداً لهُ أنه حكم الدولة والشعب البابليين بكل محبة وصلاح وعدل ومساواة ، ولم يقم بأي عمل يضر بمصالح بابل أو يُغضبُ إلهها المحبوب مردوخ ، وإنه قام بصيانة ودعم أسوار بابل الشهيرة !.
وهنا يهمس الكاهن للملك : لا تقلق .. سيستجيب الإله مردوخ لصلواتك ويُعلي ويُبارك سلطانك ويسحق كل أعدائك .
ثم يصفعهِ ثانية على خده بقوة أشد من المرة الأولى !، والتي من المفروض أن تُسبب إنهمار دموع الملك ، وهذا يعني رضى الإله . ثم يُعيد الكاهن الأكبر إلى الملك شاراتهِ الملكية بعد تطهيرها بالماء المقدس .
كانت هذه الطقوس سنوية ثابتة ومهمة جداً ورمزاً لتواضع الملك وتذكيره بأنه من البشر الفانين وليس من معدن الآلِهة الخالدة ، كذلك تعني تجديد سلطة الملك الأرضي على مملكة بابل وتنزيههِ من كل خطيئة أو نقيصة قد تقف في طريقهِ كملك للحق والعدالة ! .
في المساء ، يُجلب إلى المعبد ثور أبيض يقوم الملك بذبحهِ بسكين التضحيات على مذبح المعبد ويرفعه كتقدمة للإله ، حيث كان تقديم التضحيات من أهم مظاهر العبادة في بابل .
اليوم السادس ، يوم الأمل والرجاء .
حيث كانت تبدو طلائع مواكب المدن البابلية القادمة للمشاركة في الإحتفال ، يتقدمها موكب الإله ( نابو ) إبن مردوخ ، وعادةً كانت تفدُ بابل مواكب مدن يتراوح عددها بين 35 إلى 40 موكباً أهمها مدن أوروك ونيبور وأور وأريدو ، ولكل مدينة إلهها الخاص ، بعض المواكب كان يأتي عن طريق البر ، وبعضها عن طريق السفن في نهر الفرات .
كذلك يقوم الإله ( نابو ) بزيارة إله الحرب ( ننورتا ) في معبدهِ الخاص ، ويتفقان على خطة لقتال إلهين من آلهة الظلام في محاولة لتحرير والدهِ مردوخ ، ويقومان بتنفيذ الخطة فيما بعد بكل نجاح .
وشيئاً فشيئاً يزداد هياج الشعب وغضبه وعنفوانَ مشاعره وقلقه وشغبه حين كانت تمر عربة الإله مردوخ بجيادها ولكن بلا سائق في شوارع المدينة التي تضج بالناس الذين سلبتهم قوى الشر والظلام معبودهم وإلههم مردوخ !. وكانت العربة الفارغة بلا سائق ترمز لفوضى الكون قبل أن يقوم مردوخ بتنظيمهِ .
في اليوم السابع يقوم الإله ( نابو ) إبن مردوخ بتقديم طقس معين يرمز إلى مشاركتهِ في تخليص مردوخ من أسر العالم الأسفل .
ثم يقومون بتقديم تمثيلية – إفتراضية – تُصور موت الإله مردوخ وإنتقالهِ إلى السماء ، ويخرج الناس عن بكرة أبيهم باكين منتحبين ممزقين ملابسهم وباحثين في كل الطرقات عن إلههم مردوخ ، وتسود الفوضى وطابع المآساة بينهم !، كذلك يخرج مع الشعب الكاهن الأكبر متبوعاً بمئات الكهنة باحثين عن الإله مردوخ الذي خانه وجرحهُ الخائن ( بعل – حتيتي ) !.
يزداد صراخ وعويل النسوة وهنَّ يُشاهِدنَ كاهنات المعبد وجوقة الممثلين المقدسة ينضمون للمأتَم الشعبي الكبير في شوارع العاصمة بابل ، وتقوم النسوة بتمزيق ملابسهن وإلقاء التراب على رؤوسهن وتجريح وجوههن بأظافرهن وهن يحرضن الشعب على إيجاد الخائن ( بعل – حتيتي ) والفتك بهِ !!. وهذا يُذكِرنا بشخصية ( يهوذا الأسخريوطي ) الذي خان السيد المسيح ، كما تُذكِرنا هذه الجموع الباكية الحزينة بمراحل درب الصليب وكذلك بطقوس الحزن في عاشوراء بسبب مقتل الحسين الشهيد .
أما الكهنة فيطوفون في شوارع المدينة صارخين : يجب العثور على الماء العجائبي المقدس ( حالزاكو ) الذي سيعيد الحياة لمردوخ !.
وبعيداً عن تلك المشاهد ، تقوم مجموعة من الكهنة بتنظيف تمثال الإله مردوخ وبقية تماثيل الآلِهة وإلباسهم حلة جديدة تحضيراً ليوم الغد السعيد .. يوم قيامة الإله المعظم .
في اليوم الثامن ( يوم القيامة ) – ويُعتبر أهم أيام الأكيتو وأكثرها فرحاً – يسير موكب الكهنة وهم يحملون ( الماء العجائبي المقدس ) إلى باب قبر الإله مردوخ في معبد ( الأتيمننكي ) في برج بابل أو الزقورة ، ويَصِِلون إلى حيث تفترش الأرض الكاهنة الكبرى وهي تبكي وتنوح موت سيدها مردوخ ، وينطلق صوت الكاهن الأكبر :
أخرج يا بعل ( يا سيد ) .. أن الملك بإنتظارك .
وبعد أن يسقيهِ الكهنة الماء العجائبي المقدس تعود له الروح والحياة ، ويخرج تمثاله من القبر إلى حيث ينتظره الكهنة والآلِهة الأخرى الذين يقومون بإستقباله وتهنئتهِ بمناسبة قيامته المجيدة من بين الأموات ، ويأخذ مكانه في غرفة الأقدار ( دوكو ) وتتزاحم الآلِهة لتجديد ولائها لهُ ومنحهِ السلطة المطلقة وترديد أسماءهِ الخمسين ، وأثناء ذلك يقوم الملك تواضعاً بوظيفة رئيس الحجاب ، وكعادة مردوخ كل سنة يُملي شروطه على مجمع الآلِهة ، بينما جموع الشعب الصارخة خارج المبنى تُرعِد إحتفالاً بعيد قيامة مردوخ :
ها قد قام مردوخ العظيم من بين الأموات !!!.
وتبدأ تماثيل الآلهة مع جموع الشعب مسيرتها في شوارع المدينة ، وتبلغ ذروة الإحتفال والصخب والبهجة قمتها حين يصل تمثال ( صاربنيتوم ) زوجة مردوخ وهي تتقدم موكبها العظيم حاملة بين ذراعيها تمثالاً لطفل صغير !، ومُحاطة بمجموعة من الكهنة والكاهنات المقدسات ، والكل يُنشد ويرقص ويشرب ، ومن الجهة المقابلة يتقدم موكب ( عشتار ) إلهة الحب والجنس والحرب والشبق والمعارك والبطولات ، واقفة على جسد أسد كبير وعلى رأسها تاج الذهب والجواهر ، وهي تتقلد سلاح القوس والكنانة والسهام .
في اليوم التاسع يقوم الملك بقيادة مركبة الإله مردوخ المصنوعة من الذهب ، تتبعها عربات بقية الإلِهة ، يخترقون شارع الموكب متجهين إلى نهر الفرات تصحبهم فرق المغنين والموسيقيين والراقصين وحاملي الأعلام ، وبعد التطواف على جانب النهر يسير بهم الموكب العظيم إلى الميناء النهري ليركب الجميع السفن البابلية المختلفة الأحجام والأنواع التي ستقلهم إلى بيت الإحتفالات أكيتو ، بينما يقوم الملك البابلي بدور الدليل لتمثال الإله مردوخ ، وبعد وصولهم وإستقرارهم في حدائق المعبد الواسعة ، يُعطي الملك أوامره لتبدأ الفرقة المقدسة بإنشاد التراتيل الطقسية التي تتكلم عن المعبودة الرائعة عشتار ، وعن أيا والد مردوخ وغيرهم من الآلهة الكبار ، ويكون مسك الختام بترتيلة أخيرة على شكل سؤال وجواب للآلهة الوافدة من مدنها ومعابدها البعيدة ، وسبب تركها لمعابدها وقدومها إلى بابل ؟ ، ويكون جواب الكل : لأننا نُريد أن نكون مع الإله مردوخ في عيده .
في اليوم العاشر ، كان الملك يُقدم يده للإله مردوخ راجياً منه النهوض معه ، وكانت هذه الشعيرة بالذات من الثوابت المهمة جداً في طقس عيد الأكيتو السنوي ، وهي تعبير ورمز لإقرار ومباركة الإله مردوخ لشرعية حكم الملك على بلاد بابل لسنة أخرى .
ويتم تمثيل مقاطع حية من ملحمة الخليقة ، ثم تُقام إحتفالات وعروض مسرحية درامية شهيرة لبعض الأساطير التي كان يلعب الإله مردوخ الدور الرئيسي فيها .
بعدها يذهب مردوخ – كعادته كل سنة – للإقتران بعروسه ( صربانيتوم ) ، إذ كان الجنس من ضمن الطقوس الضرورية الثابتة في ( الزواج المقدس ) المرتبط بعيد الأكيتو ، وكان ذلك يتم في مخدع مردوخ الخاص في الطابق الأعلى من الزقورة البابلية ، أما المضاجعة الفعلية فكان يقوم بها سنوياً الملك مع إحدى كاهنات المعبد لإتمام وضمان تلقيح وخصوبة الأرض والحياة للسنة الجديدة المباركة .
ملاحظة مهمة جداً :
كان لأخذ الملك يد الإله مردوخ أهمية قصوى وخطيرة ، وضرورة مشدد عليها في بلاد بابل ، وأي ملك لا يقوم بأخذ يد الإله مردوخ لم يكن يُعترف بهِ ملكاً شرعياً على ( كل ) بلاد ما بين النهرين ، بل كان سيكون ملكاً محلياً فقط ، لأن بابل كانت تعتبر مصدر السلطة الشرعية في كل بلاد ما بين النهرين حتى أثناء سنوات التسلط العسكري عليها من قبل الآشوريين أو الفرس أو غيرهم . ولتوضيح هذه الملاحظة أكثر نعود لكتاب ( قوة آشور – ص 134 ) حيث يروي المؤلف هاري ساكز ما حصل بعد فترة إحتلال الجيش الآشوري لبلاد بابل في تلك الفترة : [ في عام ( 729 ق . م ) أخذ الملك الآشوري ( تجلا تبريزر الثالث ) يد الإله مردوخ البابلي ـ أي رافقهُ – في إحتفالات السنة الجديدة في بابل ، وبهذا مُنِحَ الملكية على بلاد بابل ، وهي وظيفة لم يحصل عليها أي ملك آشوري خلال أربعة قرون ] .
أما الكاتب الكلداني الشماس كوركيس مردو ، فيقول في كتابه ( الكلدان والآشوريون عبر القرون ) ص 160 بتصرف : [ لم يكن أمام الآشوريين إلا الإعتراف بالثقافة البابلية ، والإقرار بأولوية كبير الآلِهة البابلية ( مردوخ ) ، وهذا ما فعله الملوك الآشوريين الذين بسطوا هيمنتهم في زمنٍ ما على بابل ، ومنهم سركون الثاني ومن قبله تغلث بيلاصر الثالث وشلمنصر الخامس ، حيث حملوا لقب الملوكية على بابل بعد إدائهِم الطقس المُتبَع ، وهو قيام الملك بقبضِ يَدَي بيل ( تمثال الإله البابلي مردوخ في معبده إيساكيلا ) ] .
في اليوم الحادي عشر تجتمع كل الآلهة في معبد الإيساكيلا لتقديم الولاء مرة أخرى لمردوخ بمناسبة إنتصارهِ وقيامهِ بتنظيم الكون ، ولتثبيت الوعد الذي قطعوه له في اليوم الثامن . كذلك كان يتم في هذا الإجتماع تقرير مصائر البشر ومدينة بابل !. وكان هذا التجمع شبيهاً بما يسمى اليوم بالبرلمان .
في اليوم الثاني عشر تُبذَلُ المآدب العامة الباذخة لكل من في المدينة من بشر ، وتُقام الإحتفالات الصاخبة المُعربدة على أصوات الموسيقى والغناء والرقص وتقديم الخمور البابلية الشهيرة .
وإلى عام جديد وعيد أكيتو سعيد في السنة القادمة .
==========
أسباب عيد الأكيتو :
* الترحيب والإحتفال بالطبيعة والإبتهاج بقدومها وبخيراتها الموسمية ، ويتلخص ذلك في رموز أسر الإله تموز الذي يتم الإستعاضة عنه بالإله مردوخ في أيام الأكيتو ، وغيابه لنصف سنة في عالم الأموات الأسفل ، ومن ثم بعثه وقيامته ، وهذا يحدث كل سنة ويرمز للطبيعة وحلول الشتاء وموت الزرع والخضرة ومن ثم عودتهما في فصل الربيع والصيف .
* إحتفالاً بإنتصار الإله مردوخ على الإلهة التنينية تيامات ، وقيامه بخلق وتنظيم الكون . وهو رمز رائع لمقاومة أزلية القوى العدمية المتصدية لحركة الكون بُغية إعادتهِ إلى حالته السكونية الأولى .
* إعادة تتويج الملك الأرضي ، وتجديد صلاحيته وسلطته ، حيث كان ملوك وحكام بلاد ما بين النهرين يعتبرون أنفسهم وكلاء أو مستأجري أرض الإله ، ويتعين عليهم تجديد عقد الإيجار من الإله كل عام وتحديداً في عيد الأكيتو ( رأس السنة ) .
وحتماً لن ننسى السبب الإقتصادي ، حيث كانت مدينة بابل تزدحم بالزوار من كل المدن الأخرى كما هي الحال اليوم في شهور الحج للمدن الدينية المقدسة لكل الأديان ، وما يصرفه الزوار من مبالغ طائلة كل عام .
==========
إحتفالات بعض الشعوب والأقوام بعيد الربيع :
مع محاولة متواضعة مخلصة لإيجاد العائدية التأريخية لهذا العيد ، لأن الكل يَدَعونَ شرف ذلك ، والحق هو السبب الأول الذي دعاني لكتابة هذا البحث :
* عيد ( نيروز ) الفارسي
يُعتبر يوم 21 آذار العيد القومي ويوم الإعتدال الربيعي ورأس السنة الفارسية في إيران ، وتُعطل فيهِ كل الجهات الحكومية والأهلية إعتباراً من 20 آذار ولمدة خمسة أيام ، والمدارس والجامعات لمدة أربعة عشر يوماً .
وأثناء هذا العيد تُخفف الأحكام عن المساجين ، ويَصطَلِح الناس فيما بينهم وينسون أحقادهم وخِلافاتهم ، ويُطعمُ الفقراء والمحتاجين ، وتُزارُ قبورُ الموتى وتُكَرَمُ أرواحهم ، فهو عيد الإنسانية والفرح وإيقاظ مشاعر الرحمة في قلوب البشر ، وهذا رائع حقاً .
يقول الكاتب وليم الخازن في كتابهِ ( الحضارة العباسية ) ، بتصرف : [ في زمن العباسيين تم إعتبار عيد الربيع عيداً رسمياً ، وبإسم ( نيروز ) ، ولم يكن ذلك يعني بالضرورة أن هذا الإحتفال كان فارسياً !، لأن الفرس إقتبسوا فكرة هذا العيد خلال قرون السيطرة الفارسية على العراق بعد سقوط مملكة الكلدان في بابل ( 539 ق.م ) ، بدليل أنه في
زمن العباسيين كانوا يُطلقون على هذه المناسبة أحياناً تسمية “الربيع الشامي” ، وفي مصر أطلقوا عليه تسمية “نيروز القبطي” ] .
أما الكاتب سليم مطر فيقول في كتابه الشهير ( الذات الجريحة ) : [ يبدو أن الإيرانيين ، حتى قبل إحتلالهم للعراق وإسقاطهم للدولة البابلية سنة ( 539 ق . م ) ، ظلوا يقتبسون الحضارة العراقية من كتابة ولغة وفنون وعلوم وأفكار دينية ، ومن جملة الأمور التي إقتبسها الإيرانيون كان التقويم البابلي وتقسيم السنة ، وبالذات ( عيد السنة العراقية ) ، وأطلق الإيرانيون على هذا العيد العراقي تسمية ( نيروز ) وتعني : اليوم الجديد ، ويُشير إلى هذه الحقيقة جميع من كتبوا عن تأريخ إيران ، ومنهم المؤرخ الشهير ( آرثر كريستنسن ) في كتابهِ ( إيران في عهد الساسانيين ) ] .
* عيد ( نوروز ) الكردي
يوم 21 آذار هو العيد القومي وعيد رأس السنة الجديدة عند الأكراد . وفي كردستان العراق يتم تعطيل كل المؤسسات الرسمية والأهلية في هذا اليوم إعتباراً من 20 آذار ولمدة أربعة أيام ، ويتم إيقاد شعلة نوروز في كل المدن الكردية ، والتي يُسمونها شعلة ( كاوة الحداد ) .
وبخلاف بقية الشعوب فإن عيد نوروز الربيعي يعني عند الأكراد ذكرى قومية ليوم تحررهم من الظلم والعبودية !، حتى وإن كان ذلك من خلال ملحمة رمزية خرافية شعبية ( كاوة الحداد ) يعتقد بعض الكتاب والمحللين إنها مُقتبسة من إحدى قصص أسطورة ( الشاهنامة ) الفارسية ! .
تقول الأسطورة الكردية ( بإختصار ) : كان هناك ملك آشوري شرير إسمه ( الضحاك ) !!، وفي مصادر أخرى يقولون أنه كان من ملوك الفرس !، والذي بسبب شروره الكبيرة – ومنها ذبحه لأطفال الكرد- تغيب الشمس وترفض أن تشرق ثانية !، وحتماً غيابها أدى إلى موت الحياة النباتية وجوع البشر ، وبعد كذا وكذا من الأحداث الدرامية يبزغ نجم
بطل قومي كردي إسمه ( كاوة الحداد ) ، الذي سيشعل النار في قلعة الضحاك ويقوم بقتلهِ ، عندئذٍ فقط تشرق الشمس ثانيةً !!، ويعود للأرض خصبها ورونقها وإخضرارها ، وبهذا تصبح نار قلعة الضحاك رمزاً لعيد النوروز الكردي !.
الحق هي ملحمة خرافية جميلة جداً ، لولا أن الأكراد صدقوا هذه الميثولوجيا لدرجة الإعتقاد بحقيقة وقوعها وبتأريخيتها رغم ( لا واقعية ) أحداثها !!، لِذا يصبح من السخرية إستعمالها كحجة لإسناد عنادهم وإصرارهم على عائدية عيد الربيع لهم !.
يقول ( ياقوت الحموي ) في كِتابه ( معجم البلدان ) : [ تدعي العجم أن الملك الضحاك كان له ثلاثة أفواه ، وست أعين ، وقد مَلَكَ الف سنة إلا يوماً واحداً ونصف يوم !، ثم أسَرَهُ ( أفريدون ) وحبسه في جبل ( زنباوند ) ، والعجم يعتبرون يوم أسر الضحاك عيداً ، وهو المهرجان ] !!.
وبعد كل ذلك يطلب الأخوة الأكراد مِنا أن نصدق أن عيداً عمره عدة آلاف من السنين الحضارية هو من صنيعتهم !!!؟ علماً بأنه لم يكن للأكراد أي ذكر في التأريخ يوم كان هذا العيد يُحتَفَلُ به في بلاد ما بين النهرين !!، لأنهم آخر الأقوام التي نزحت إلى العراق في أوقات لاحقة وحديثة نسبياً !.
موضوعي المطروح اليوم ليس تحاملاً أو هجوماً عنصرياً أو طائفياً على أحد كما سيدعي البعض حتماً كمحاولة لتسطيح الموضوع وتسفيه ما هو مطروح ، بل حقيقة إستََفَزَها إدعاء البعض لعائدية هذا العيد لهم ، ومنهم الأخوة الأكراد الذين كردوا الكثير مما ليس لهم في القرنين الماضيين ، وهذه أمور من المفروض أن يكون صَمام أمانِها النزاهة ومعقولية الإدعاء وثبات الحجة ! ، ومن الخطأ التعامل مع التأريخ على مبدأ الشاعر : ولكن .. تؤخذ الدنيا غلابا !.
* عيد الربيع الشامي
وحول ذلك يقول الكاتب أنيس فريحة في كتابهِ ( دراسات في التأريخ ) : [ يبدو أن هذا العيد إنتقل إلى سوريا مع إنتقال معظم الميراث السومري إلى الساميين ] .
ونحنُ نعرف أن السوريين إحتفلوا بهذا العيد منذ أزمان بعيدة تسبق أي شعب آخر عدى شعب وسط وجنوب العراق ، وكانت واحدة من الشواهد الصارخة على إقتباسهم هو أنهم حولوا إسم الإله الرافدي ( دموزي – تموز ) في هذا العيد إلى إسم ( أدون – السيد ) !، ومنهم إنتقل الإسم إلى الإغريق تحتَ تسمية ( أدونيس ) !.
* كذلك يحتفل به اليزيديون في شمال العراق تحت تسمية ( سري صال ) في الأربعاء الأول من شهر نيسان ، ويسموه عيد ( الملك طاووس ) الذي هو نفسه الإله العراقي القديم ( تموز ) البابلي زوج الإلهة عشتار ، وهذا ما تقوله كل الكتب ، بنفس الوقت يرمز الملك طاووس إلى ( جبرائيل ) أيضاً !.
أيضاً يحتفل بهذا العيد سريان العراق المسيحيين في ألأول من نيسان . كذلك الصابئة المندائيين في العراق ، والذين تفرعوا تأريخياً عن الكلدان نسبة إلى مراسيمهم الدينية التقليدية المعتمدة على طقوس التطهر – الصباءة – والإغتسال بماء النهر الجاري . وأيضاً المانِيين .. وهو يوم صلب نبيهم ( ماني البابلي ) . كذلك يحتفل به تركمان العراق ، وأغلب الناس في العراق ويسموه ( دورة السنة ) .
وقد عُثر على لوح طيني سومري يعود للألف الأول قبل الميلاد مكتوب عليه التفاصيل الكاملة لإحتفالات عيد الأكيتو في العراق القديم .
ذكريات طفولتي تقف عند أول سنة عَرَفتُ ومَيزتُ فيها هذا العيد ، كنتُ في السادسة من عمري ، وأذكر أن والدتي أخذتنا يومها إلى ( بارك السعدون ) الشهير القريب من القصر الأبيض في بغداد والذي كان مخصصاً لضيافة كبار الزوار الرسميين والدبلوماسيين للدولة .
لا زلتُ أحتفظ لحد الأن بالصورة الفوتوغرافية الوحيدة لنا في ذلك اليوم السعيد ، وتظهر في الصورة إلى جانبنا سلة طعامنا في عيد الربيع ( السمبوسك والبيض والبطاطة المسلوقان والعمبة الهندية وساندويجات البتيتة جاب واللسانات وأنواع الطرشي والمخلل والطماطم والكرفس والمعدنوس والرشاد والكراث والخس والفواكه والمكسرات ) .
كانت الكثير من العوائل البغدادية تقوم في هذه المناسبة بسفرات إلى مناطق قريبة من بغداد مثل ( سلمان باك ، الحلة وبابل ، بعقوبة وبساتينها الشهيرة ومنطقة الهويدر ، أبو غريب ، تل عكركوف ، ملوية سامراء ) ، وغيرها الكثير من الأماكن الجميلة التي لا تحضرني أسماؤها الأن .
* أما اليونانيون القدماء فقد إحتفلوا بعيد الربيع من خلال أسطورة تقول بأنه كان للأرض ربة أو آلِهة حزنت لأن رب العالم الأسفل خطف إبنتها !، فلما حزنت أجدبت الأرض ومنعت الزرع والثمار ، فضج البشر مشتكين لآلِهة الأولمب التي حَكَمَت على رب العالم الأسفل بإعادة تلك الأبنة لمدة ستة أشهر من كل عام ! وصدف موعد عودتها في الربيع حيث تخضر أمها الأرض سعادةً بعودة إبنتها إليها !.
وكما نرى … هي نسخة كاربونية لنغمة رافدية فيها بعض تحوير من أسطورة الإله ( تموز ) البابلي ، ومن يقرأ عن أساطير الإغريق واليونان يعرف أن معضمها مُقتبس من أساطير بلاد ما بين النهرين ، والتي إنتقلت إليهم عبر الكنعانيين والفينيقيين ، والعبريين لاحقاً .
* عيد شم النسيم المصري
في ويكيبيديا الموسوعة الحرة ، تقول كل المعلومات المنشورة هناك : [ أن عيد شم النسيم المصري يرجع الإحتفال بهِ إلى نحو ( 2700 ق. م ) ، وبالتحديد إلى أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة . وله تسمية أقدم هي عيد النيروز القبطي .
وترجع تسمية ( شم النسيم ) إلى الكلمة الفرعونية “شمو” وهو عيد كان يرمز عند قدماء المصريين إلى بعث الحياة ، وكانوا يعتقدون أنه أول الزمان وبداية خلق العالم ] .
وكما بينت في متن المقال ، فإن إحتفال العراقيين القدامى بهذا العيد يعود للفترة الواقعة بين الألف الرابع والخامس ق . م ، وهذا يجعل الإحتفالات بهذا العيد في منطقة وسط وجنوب العراق أقدم تأريخاً من أي إحتفال آخر بهذا العيد .
* عيد الربيع ( أكيتو ) الآشوري
أما عن الأشوريين !، فيتطلب الأمر مني توضيح العقدة التأريخية الحاصلة بين الآشوريين والكلدان البابليين لفهم الإشكال الحاصل بين الشعبين اليوم ، والذي أكبر أسبابه التأريخية إنهاء الكلدان لكيان الدولة الآشورية إلى الأبد سنة 612 ق. م ! ، والتي بسببها لا زال الآشوريون يحملون كل أنواع الضغينة تجاه أخوتهم في الدين من الكلدان البابليين رغم مرور بضعة آلاف من السنين على تلك الأحداث التأريخية !!.
والحق مللنا قراءة وسماع ومشاهدة إلحاح الأخوة الآشوريين ومناكداتهم وتزويراتهم البائسة الدائرة في أفلاك عديدة منها إدعاؤهم عائدية هذا العيد التأريخي لهم في كل وسائل إعلامهم ! .
وكل ذلك لعمري نكتة فجة تفتقد الظرافة ، وقرار غير عقلاني يخلو من الموضوعية والمسؤولية ، وسرقة تأريخية مُخجلة تماماً رغم أنها ليست أول سرقة تُشين الأخوة الآشوريين ، وليست أول مناكدة وتحرش معاصر لهم بالكلدان البابليين ، والظاهر أن تبعيتهم الثقافية والحضارية التأريخية لبابل والكلدان ، وعدم غفرانهم لهم بسبب نهاية دولتهم آشور على أيدي الكلدان ، قد سببت لهم عقدة نفسية تأريخية يأبى الأخوة الآشوريون فهمها وإخمادها في نفوسهم رغم مرور أكثر من 2500 سنة !!، وقد صدق الكاتب ( د. جون أوتس ) في كِتابه ( بابل تأريخ مُصور ) حين قال ( بتصرف ) : [ بعد إنتهاء غزو بابل من قبل الملك الآشوري – تكولتي ننورتا الأول – نقل الآشوريون المتعطشون للحضارة البابلية أعداداً كبيرة جداً من الألواح المسمارية البابلية إلى بلادهم آشور ، بوصفها غنائم حرب ، وبقيَ الإهتمام الآشوري المفرط ببابل وتناقضاتهم معها يُثير المتاعب لمملكة آشور الشمالية طيلة القرون الستة اللاحقة ] .
وهذا لوحده يقول لنا أن الآشوريين لم يكن يهدأ بالهم حتى حين كانوا يُحققون إنتصارات عسكرية على بابل ، كونهم أدركوا أن بابل قد إنتصرت عليهم عبر كل التأريخ في كل شيء آخر ، ورغم أنها رزحت تحت نير إحتلالاتهم العسكرية زمناً طويلاً ، لكنها أنهتهم في النهاية وأخرجتهم من التأريخ عقوبة لهم على كل سلبياتهم وحسدهم لبابل خلال قرون عديدة ، والتي كان من نتائجها تخريبهم ونهبهم لبابل عدة مرات ، لكن بابل كانت تقوم من خرابها ورمادها كطائر الفينيق وبكل عناد وضراوة وإصرار على متابعة دورها كحضارة أعطت العالم أولى إشعاعات الفكر الإنساني .
المؤلف والآثاري ( هاري ساكز ) ألَفَ كتابه ( قوة آشور ) لتبيان عظمة الأمبراطورية الآشورية ، ويقول في ( ص 10 ) : [ أمضيتُ أكثر من نصف حياتي في دراسة الآشوريين ، وسيلحظ القارئ فوراً بأني في الواقع أحب الآشوريين ] .
ولكن مع كل هذا الحب يبقى المؤلف ( هاري ساكز ) مُخلصاً لقول وتسجيل الحقيقة العلمية ، ولا يملك إلا أن يتعجب من بعض تصرفات وسلوك الأشوريين ومحاولاتهم التأريخية المتكررة للتزييف والسرقة من الكيان البابلي وأولها ما قاله عن سرقة عيد الأكيتو :
على ( ص 296 ) يقول ( بتصرف ) : [ أحد الإحتفالات كان يُسمى ( أكيتو ) ، ويُترجَم غالباً ب ( عيد رأس السنة ) ، وقد استخدمت هذه الترجمة لأن العيد أصبح كذلك في مدينة بابل ، وكان يُعقد في الأيام الأولى من الشهر الأول ( نيسان ) من السنة ، وفي بابل كان يحتوي على تلاوة قصة الخليقة بأكملها ، وهي تمثيل المبارزة الطقسية بين إله المدينة ( يقصد مردوخ ) وبين تيامات المخلوق البدائي وهي إمرأة وتنين ، والزواج المقدس ، ومراسيم أُعدت لضمان رفاهية المدينة للسنة المقبلة ، وتتويج الملك الأرضي
مجدداً. ولكن ليس من المفروض أن نرى عيد الأكيتو في بلاد آشور كنسخة لما هو عليهِ في بابل بكل التفاصيل !. مع إشارات قوية إلى أن معظم ما كان يحدث مُشابهاً لعيد الأكيتو في بابل ، وقد لا يُمثل ذلك تقليداً آشورياً قديماً ، ولكنه تأثير حديث نسبياً من بابل ] !!.
وعلى ( ص 389 ) يقول الكاتب نفسه : [ إن معظم الأصناف الأخرى من الكتابة التي وجدت في بلاد آشور هي إما مُقتبسة بشكل مُباشر من بابل وهي حالة معظم النصوص تقريباً التي قد تُعد أدبية في المعنى الضيق للكلمة ، وإما أمثلة وجدت في بلاد آشور لأنواع من النصوص المعروفة من بلاد بابل ] !.
وعلى ( ص 392 ) وتحت عنوان “نصوص مُقتبسة مباشرةً من بلاد بابل” يقول المؤلف : [ أن الأصناف الكتابية التي تم ذكرها حتى الأن أما تطورت في بلاد آشور أو أن تأليفها تم في بلاد آشور وفق نماذج بابلية . وما عدى ذلك ، فإن غالبية النصوص المُكتشفة في بلاد آشور كانت إقتباساً مُباشراً من بلاد بابل ] !!؟ .
وعلى ( ص 398 ) يقول : [ إن أنواع النصوص التي وجدت في مكتبات الملك ( آشور بانيبال ) تقدم دليلاً جيداً على الأدب المدرسي المُستخدم في بلاد آشور ، وهو بالدرجة الأولى من أصل بابلي ] !!.
وعلى ( ص 403 ) أضحكني قول المؤلف : [ إن أهم أساطير الألف الأول في بلاد الرافدين كانت ( أسطورة الخليقة ) التي تركزت حول إحتفال رأس السنة الجديدة في بابل ، وقد أخذ الآشوريون هذه الأسطورة ، إلا أن هذا خلق لهم مشكلة لاهوتية ! ، لأنهم كانوا قد إدعوا أن إلههم القومي ( آشور ) كان مُسيطراً على العالم !، وهو إدعاء يتعارض علانية مع اللاهوت البابلي الخاص بسيادة الإله مردوخ !، وقد عالج الآشوريون هذه المشكلة بالإستعاضة عن الإله مردوخ بالإله آشور في أسطورة الخلق الآشورية ] !!!.
وعلى ( ص 404 ) يقول المؤلف عن سرقة الآشوريين لملحمة كلكامش البابلية : [ ولا نعرف الهدف الفعلي من وجود ملحمة كلكامش في بلاد آشور ؟، فليس هناك سبب يدعونا إلى الإفتراض بأنها كانت تُستخدم في الطقوس ، ولا يُمكن أن تُستخدم في التمثيل الدرامي ، وقد يُخَمَنْ أنها كانت تُتلى لمجرد التسلية والترفيه في حفلات البلاط ، ولكن لا يوجد دليل قوي يؤيد ذلك ] !.
وهنا يتبادر إلى أذهاننا أن ذلك كان تصرف حرامي سرق بسبب حسدهِ فقط ، ولم يُفكر : هل سيكون بإمكانهِ إستعمال المادة المسروقة !؟.
أما الكاتب فراس السواح ، فيقول في كتابهِ ( مغامرة العقل الأولى ) وعلى ( ص 377 ) : [ الإله آشور هو كبير آلِهة الآشوريين ، وهو صورة طبق الأصل عن الإله البابلي “مردوخ” ، وقد قام الآشوريون بتبديل إسم مردوخ إلى آشور في معظم الأساطير التي ورثوها ] !.
وفي كتاب ( قاموس الآلِهة والأساطير ) يقول مؤلفوه الثلاثة ص 24 : [ والملفت للنظر أن الإنتاج الأدبي في العصر الآشوري بمراحله الثلاث القديم والوسيط والحديث كان عقيماً ، وذلك لأن كل ما عُثر عليه في العاصمة آشور وفي نينوى في مكتبة العاهل الآشوري آشور بانيبال كان مدوناً بعد العصر البابلي القديم ، ومنسوخاً من أصول بابلية قديمة ممهورة بأسماء كاتبيها ] .
ولنتمعن في المعنى الدلالي الكبير للكاتب الآثاري ( جان بوتيرو ) في فقرة
من كِتابهِ ( بلاد الرافدين ) ترجمة الأب البير أبونا ، بتصرف : [ منذ سنة (1750 ق . م ) أصبحت بابل العاصمة السياسية ثم الثقافية للبلاد ، وبابل تُمثل بصورة إعتيادية النصف الجنوبي وحدهُ من حدود بلاد الرافدين . أما بلاد آشور فقد كانت دائماً خاضعة ثقافياً لبابل ، وعلى إختلاف نُظمها السياسية اللاحقة ، وخلال إزدهار عواصمها بالتتابع ( آشور وكالخو وخرسباد ونينوى ) ] .
وللعلم فإن أغلب الآلِهة الآشورية هي في الأصل آلِهة بابلية ما عدى الإله آشور الغريب – غير سامي – والشوباري الأصل . حتى الإلهة البابلية عشتار إقتبسوها من بابل حوالي سنة ( 1500 ق . م ) وزوجوها ( عنوة ) لإلههم آشور !!!، وهي معلومة طريفة تدعوني للإبتسام كلما تذكرتها !!.
تحت يدي العشرات من آراء الكتاب العالميين في موضوع السرقات الآشورية من بابل ، ولكن … البحث طويل جداً ولا يحتمل المزيد .
يستعمل آشوريو اليوم نفس التصرفات والسلوكات والنُهَج الخاطئة التي مارستها قبلهم بعض الشعوب والأقوام أمثال العرب والأكراد والأتراك والفرس ، في محاولة مسعورة لا ضابط لها ، لأشوَرَة التأريخ المحلي الرافدي ، ومنه أشورة عيد الربيع ( الأكيتو ) !.
برأيي الشخصي هذا ناجم عن جهل أو تجاهل وكلاهما يُشين ويُعيب الأخوة الآشوريين الذين يُحاولون اليوم وبكل ما يملكون من دهاء وخبث سياسي في العراق وخارجه تهميش الكلدان على كل الأصعدة ، حتى لو كان ذلك بالتزوير والكذب واللعب على حبال المسؤولين من العرب والأكراد في سبيل تحقيق ذلك !، وأكثر ما يُغيضهم اليوم هو أن نسبة عدد الكلدان العراقيين هي 75 ٪ من مجموع المسيحيين العراقيين في الداخل والخارج ، بينما يؤلف الآشوريون والسريان بقية ال 25٪ من العدد الإجمالي ، وهذا لا يُتيح لهم أي فرصة في البرلمان العراقي إلا إذا كانت مفروضة ومزورة ومحمية من قبل المسؤولين العرب والأكراد ، وقد حقق الأشوريون ذلك من خلال طُرق ملتوية لم تعتمد العدالة والنزاهة ، والتي رافقتها خدماتهم لبعض الظَلَمَة من المسؤولين والمتنفذين المهتمين بمصالحهم الخاصة فقط !، بينما لا زال الكلدان رغم تفوق عددهم لا يملكون أي مقعد في البرلمان !!!، فأين العدالة والحقوق في كل ذلك ؟.
أعتقد في ما ذكرتُ من أدلة ، كفاية لإثبات أن هذا العيد ( أكيتو ) ليس له أية عائدية للأقوام الآشورية ، وهم مُقتبسين ليس إلا !.
قناعات كاتب المقال :
أحتَرِمُ آراء الباحثين والعلماء والكتاب الذين لهم مصداقية عند القارئ المحترف والذين يكتبون من أجل المعرفة والحقيقة فقط ، لِذا وإستناداً على الكثير الكثير الذي قرأته عن الموضوع فقناعاتي تقول أن الأقوام السامية – الفراتيين الأوائل – التي سبقت الإستيطان السومري في العراق (عصر أريدو والعبيد والوركاء وأور وأوروك وكيش) قد إمتزجت
وإنصهرت حياتياً مع السومريين ، وإحتفلت بهذا العيد معهم أو إحتفلوا معها ، بحيث لا أحد يستطيع اليوم أن يقول بعائدية هذا العيد للساميين أو للسومريين ، فهذه أحداث من الصعب إقتفاء آثارها بدقة تأريخية ! ، لِذا أتساءل : ماذا حدث لكل تلك الأقوام السامية والسومرية التي عاشت في وسط وجنوب العراق والتي إحتفلت قبل كل العالم بأعياد الربيع ؟!، هل رحلوا إلى كوكب آخر مثلاً !، أم تبخروا ! أم تم رفعهم عن الأرض بقدرة خارقة وإستبدالهم بالأكديين والبابليين والكلدان ؟
كل هذا ليس وارد في منطق العلم حتماً ، بل يقول العقل والمنطق أن ديمومتهم إستمرت على نفس التربة وفي نفس المدن ، ولكن تحت مسميات مدينية وقومية وقبيلية ومناطقية ودينية جديدة ومختلفة ولأسباب وإعتبارات تأريخية عديدة لسنا بصدد التطرق لها الأن .
في مقال نُشر في جريدة المؤتمر قبل سنوات ، يقول الكاتب سليم مطر : [ هناك صورة خاطئة فرضها المؤرخون التوراتيون والمستشرقون على التأريخ العراقي وكذلك التأريخ الشامي ، توهِمُ بوجود شعوب عديدة متلاحقة : ( أكدية ، عمورية ، كلدانية ، آشورية ) بينما الحقيقة أنها لم تكن شعوباً بقدر ما كانت سلالات ، فهل يصح مثلاً الحديث عن الشعب ( الأموي ) والشعب ( العباسي ) اللذين كانا سلالتين مُختلفتين من شعب واحد !؟ ] .
إذن … يكون الأكديون والبابليون والكلدان – وبحكم ومنطق وتفسير التأريخ والجغرافية – هم نسل وأبناء وأحفاد تلك الأقوام السامية والسومرية ، والورثاء ( الشرعيون ) الوحيدون لأديانهم وآلهتهم وعاداتهم وأعيادهم ، لأن هؤلاء الساميين والسومريين – في بداياتهم – إمتزجوا مع بعضهم البعض لحد التلاشي النوعي ، بحيث عجز العلماء لاحقاً عن معرفة وتمييز عظام السامي من عظام السومري أحياناً في تلك المناطق الجغرافية من بلاد ما بين النهرين . وكحتمية لا تقبل الخطأ كان عيد الربيع ( الأكيتو ) من ضمن ما ورثوه من أسلافهم القدماء .
لِذا يصبح من حق البابليين في أقليميَ الوسط والجنوب وعلى إختلاف تسمياتهم اللاحقة ومنها ( الكلدان ) إدعاء عائدية هذا العيد لهم ، قبل عائديتهِ لأي شعب آخر كالآشوريين مثلاً ، أو الشعوب الشرق أوسطية من الذين إقتبسوا هذا العيد لاحقاً وفي أزمنة مختلفة .
يقول الكاتب والمؤرخ الكلداني المُعاصر السيد ( حبيب حنونا ) : [ البابليون هم ورثة الحضارة السومرية بحكم معايشتهم في نفس المنطقة ] .
أما الكاتب ( ناصر اليونس ) فيقول في بحث موسع ورصين له بعنوان ( رحلة في العقل السومري ) نُشرت بتأريخ ( 22 – 7 -2010 ) : [ الحضارة البابلية والكلدانية تعتبران الوريثتان الرسميتان للحضارة السومرية ، وإليهما إنتقل كل البناء الحضاري الديني السومري ] إنتهى .
كلمة أخيرة :
الحضارة جهد مُشترك لبني البشر ، وهي ترحل وتنتقل وتتبدل وتتطور عبر الزمكان ، لكنها لا تُسرق أو تُدعى ، لأن خلف كل إنجاز حياتي أصل و “براءة إختراع” تكون من حق الصانع الأول ، والحضارات القديمة نمت وأينعت وأثمرت ثم ماتت … فكما تموت الأشجار كذلك تموت الحضارات ، ليأتي بدلها ويحل محلها حضارات أخرى جديدة فتية تولد من رحم الحضارات المحتضرة ، بالضبط كتجدد تموز وعيد الربيع وتوالي الفصول ، هي دورة الأفلاك ، والمنطق يقول “موت الحضارة .. يعني إنتقالها في المكان” .
وكم هو جميلٌ أن نرى أساطير وملاحم وحضارة وأعياد وأديان وفكر بلاد وادي الرافدين قد سافروا وتواصلوا ولقحوا وخصبوا بذور وبويضات أغلب حضارات شعوب الأرض ، وهذا مدعاة فخرنا وتباهينا في زمن ليس لنا ما نفاخر أو نتباهى بهِ !.
لِذا يكون من حق كل الأمم والشعوب والقوميات الإحتفال بهذا العيد الذي أصبح عالمياً ، فالربيع والإحتفال والفرح ليسوا حكراً على أحد ، لكن إدعاء البعض لعائدية هذا العيد تأريخياً يجعلنا نقف بحزم وصلابة لنقول رأينا التأريخي الفاصل في الموضوع ، وبرأيي هي ضرورة لا بد منها لإيقاف المدعين أو السراق ، وهو حقنا المشروع في الدفاع عن تأريخنا وحضارتنا وتراثنا البابلي الكلداني وما لنا فيه من بصمات وأحداث ، وعيد الأكيتو حتماً واحد من أحداث تأريخنا الذي نشارك الآخرين به ، ولكن لن نسمح لهم أبداً أن يَدَعوهُ لهم ، والتأريخ هو الحكم دائماً .
المجد للإنسان .
الحكيم البابلي = طلعت ميشو – 25 آذار 2012
==========
مصادر المقال :
مقالات لكتاب عراقيين كثيرين في مقدمتهم الكاتب والمؤرخ الكلداني المُعاصر السيد ( حبيب حنونا ) .
التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب ..……. علي الشوك .
جولة في أقاليم اللغة والأسطورة …………… علي الشوك .
مقدمة في أدب العراق القديم ……………………. طه باقر .
مدخل إلى حضارات الشرق القديم ……. ف . فون زودن .
تأريخ حضارة وادي الرافدين ……………… أحمد سوسة .
الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور ..…… جورج كونتينو .
من الواح سومر ……………….……… نوح صمويل كريمر .
تأريخ الفكر في العراق القديم ….……. الأب سهيل قاشا .
الكلدان منذ بدء الزمان ……………………… عامر فتوحي .
قاموس أساطير العالم …………….…….……. آرثر كورتل .
الكلدان والآشوريون عبر القرون ……….. كوركيس مردو .
الذات الجريحة …………….…….…………….. سليم مطر .
قوة آشور ………………………….………….. هاري ساكز .
دراسات في التأريخ ………………….…….. أنيس فريحة .
مغامرة العقل الأولى ……………..………. فراس السواح .
أما الساميون الذين سكنوا العراق القديم قبل وأثناء وبعد السومريين فقد إختاروا له تسمية ( أكيتو ) وتعني : ( الحياة ) والمشتقة من تسمية أقدم هي :
( a-ki-ti-se-gur-ku ) .
هذا العيد كان معروفاً منذ الأزمنة العتيقة لبلاد ما بين النهرين في مدن مثل ( أريدو ، أور ، لجش ، كيش ، أوروك ) ، وكما ذكرنا كان واحداً من عيدين رئيسيين ( زاكموك وأكيتو ) . زاكموك هو عيد الإحتفال بحصاد الشعير ، كذلك هو عيد الإعتدال الخريفي المتزامن مع موسم قطف التمور ، وكان الإحتفال به يجري في الخامس عشر من شهر أيلول من كل عام ، ويرمز لقدسية نخلة بلاد الرافدين ولتجدد وخصب الأرض المتمثلة بشعائر الجنس في ( الزواج المقدس ) ورمزه الإله السومري ( دموزي ) وزوجته ( أنانا ) واللذين تم إقتباسهما في شخصية الإله ( تموز ) وزوجته ( عشتار ) عند البابليين ، ولاحقاً تم الإستعاضة عنهما في شخصية الإله ( مردوخ ) وزوجته ( صربانيتوم ) أثناء الإحتفال بعيد الأكيتو في بابل .
كان أكيتو في جذوره القديمة الأولى عيداً شعبياً لجز صوف الماشية والأغنام ، وكان يُحتَفَل به بين شهري آذار ونيسان ، ويُمثل رأس السنة الجديدة ( الإعتدال الربيعي ) ، ثم أصبح من المتعارف عليه الإحتفال بهِ في اليوم الأول من شهر نيسان كل عام في إقليميَ الوسط والجنوب من بلاد النهرين ، بينما لا توجد دلائل على معرفة هذا العيد في الأقليم
الشمالي ( آشور ) قبل سنة ( 1200 ق . م ) ، وذلك حين قام الملك الآشوري ( تيكولتي نينورتا الأول 1214 – 1208 ق . م ) بعد غزوه وتدميره لمدينة بابل بسرقة تمثال الإله مردوخ ونقلهِ ضمن غنائم الحرب إلى بلاد آشور في شمال العراق ، مما حفز الشعب الآشوري على الإحتفال بهذا العيد لأول مرة إقتداءً وتقليداً لإحتفالات البابليين به .
وحول هذه النقطة يقول الكاتب الآثاري ( هاري ساكز ) في كتابه ( قوة آشور ) : [ كانت بلاد بابل مصدر ومركز حضارة بلاد الرافدين ، وكانت العاصمة بابل مركزاً دينياً ذا قداسة كبيرة ، وإن سلب ونهب بابل في العالم القديم يمكن تشبيهه بسلب الفاتيكان أو القدس أو مكة في وقتنا هذا ] إنتهى .
وهكذا راح البابليون يحتفلون بعيد الأكيتو في اليوم الأول من شهر نيسان ( نيسانو ) والذي يعني : العلامة ، وفي العربية ( نيشان ) لأنها العلامة أو النيشان على حلول فصل الربيع والإعلان عن ولادة الحياة ورمزاً للخصب وحَبَل الأرض بكل ما هو أخضر .. وهو لون الحياة .
كان الإحتفال بهذا العيد يستمر لمدة ( 11) يوماً متواصلة ، وقد يسأل القارئ عن : لماذا الرقم ( 11 ) في عدد أيام الإحتفال هذا !، والجواب مشروح بدقة في مقال للكاتب والمؤرخ المعاصر السيد ( حبيب حنونا ) والمنشور في مجلة ( المنتدى ) التي كانت تصدر في مشيكان لأكثر من (35) سنة ، العدد 33 لسنة 1998 حيث يقول الكاتب ( بإختصار وتصرف ) : [ لاحَظَ الإنسان في بادئ الأمر أن دورات الطقس والمناخ تتكرر وتُعيد نفسها كل إثني عشر دورة من دورات القمر تقريباً ، فسمى تلك الفترة ( سنة . سنتة . شنتة ) إكراماً لإله القمر ( سن ) ، فقسموها إلى أربعة فصول وسموها بمسمياتها : ( الربيع ) وهو أول فصول السنة وكرسوه للإله ( مردوخ ) الإله الحكيم ورب الكون . يليه فصل ( الصيف ) وكرسوه للإله ( ننورتا ) إله الرياح الجنوبية ورب القنوات والسدود والري ، ثم فصل ( الخريف ) وكرسوه للإله ( نابو ) إله الكتابة والحكمة وإبن الإله مردوخ ، ثم فصل ( الشتاء ) وكرسوه للإله ( نركال أو نرجال ) وهو إله الموت والعالم الأسفل ، معتقدين أن الشمس تكون في منازل تلك الآلهة خلال تلك الفصول .
أما الأشهر الأثني عشر فكانت أشهراً قمرية يبدأ كل منها مع ميلاد قمر جديد ، وإعتبروا الأول من نيسان هو عيد رأس السنة ، لكنهم أدركوا بعد فترة زمنية طويلة أن عيد رأس السنة الذي إعتادوا أن يحتفلوا به في الربيع بدأ يتراجع تدريجياً إلى الوراء بحيث أصبح يقع ضمن فصل الشتاء !!، ثم بعد فترة زمنية أخرى أصبح يقع ضمن فصل الخريف !!، وإستنتجوا من كل ذلك أن الطقس والمناخ تتحكم به منازل الشمس في الكون ، وإن دورات القمر ليست لها علاقة بذلك ، وأن السنة القمرية لا تتطابق مع السنة الشمسية ، وأن هناك إختلاف بينهما هو أحد عشر يوماً ، ومن أجل أن تتناغم الفصول التي تتحكم بها الشمس مع التقويم القمري ، أعادوا صياغة التقويم القمري بإضافة أحد عشر يوماً ما بين نهاية شهر آذار وبداية شهر نيسان ، وأصبحوا يحتفلون بتلك الفترة كرأس أو بداية للسنة الجديدة .
ثم بعدها أدخلوا شهراً إضافياً بعد كل ثلاثة سنوات قمرية ، فإعتبروا السنة الرابعة ذات ثلاثة عشر شهراً ، لكي يكون التقويمان الشمسي والقمري متكافئين ( ولا يزال اليهود لحد الأن يستعملون مثل هذا التقويم الذي إقتبسوه من البابليين أثناء تواجدهم في الأسر ) !.
وبعد أن شاع إستعمال التقويم المُعَدَل أخذ سكان ( بيث نهرين ) يحتفلون بعيد رأس السنة في الأول من نيسان من كل عام ولغاية الحادي عشر منه ، وكانت البداية في بابل ، ولهذا أطلقوا عليها تسمية ( السنة البابلية ) ، ومن بابل إنتقلت إلى ( آشور ) ثم شاعت في كل المدن الرئيسية في بلاد الرافدين ، لا بل تعدت إلى أقوام وشعوب أخرى في المنطقة في عهودٍ لاحقة ، مثل الفرس والأكراد الذين يحتفلون بعيد نوروز في الحادي والعشرين من شهر آذار ( وهو الأول من نيسان حسب التقويم البابلي الأول ) . وفي العراق كانت السنة المالية حتى عهد قريب تبدأ في الأول من نيسان .
لا نعلم بالضبط تأريخ أول مهرجان من مهرجانات رأس السنة ، إلا أنه كان يُحتَفل بهِ في بدايات الألف الثالث قبل الميلاد إستناداً إلى ما ورد في بعض المدونات السومرية ] إنتهى الإقتباس .
إستمر البابليون يحتفلون بعيد أكيتو حتى بعد سقوط الدولة الكلدانية الوطنية الأخيرة في بابل على يد قورش الفارسي سنة ( 539 ق. م ) ، والمؤسف أنه عبر مئات السنين وما وصل إليه حال العراق بين مد وجزر الغزوات والإحتلالات وأنواع التسلط الدولي والإستعماري والنكبات من كل نوع ، ضاع معنى عيد الأكيتو ، وكان يُحتفل به بصورة خاصة ومتواضعة قد تكون في بعض السنوات الحبلى بالظلم شبه معدومة !. علماً أن بعض الحكومات الإسلامية في تأريخ العراق كانت قد حَرَمَت وَمنعَت الإحتفال بهِ لإعتبارهِ عيداً وثنياً !. بينما إستمر الإحتفال به عند أقوام أخرى مثل الفرس والأكراد رغم إسلامهم !!، وكما يعرف الجميع فإن مسألة التحليل والتحريم تأخذ دائماً
الصفة الإنتقائية والمزاجية في سلوك الدولة الإسلامية ، لِذا شاعت تسمية ( نوروز ونيروز ) بينما إختفت تسمية ( اكيتو ) وإقتصرت على مسيحيي العراق والشام من السكان
الأصليين الذين أصبحوا قلة قومية ودينية مقموعة ومُهمشة ومُحاربة مما أدى إلى إنكماش وضمور في أغلب ما يخص كيانهم وحجمهم .
أحياناً كان يُلغى هذا العيد ولا يُحتفل بهِ في بعض السنوات ، بسبب الحروب أو إحتلال العدو للبلاد أو غياب الملك أو غياب الإله مردوخ الذي تم سرقته ونقله لعدة سنوات إلى بلاد آشور بعد أن قام الآشوريون بغزو بابل ، لهذا كانت سنوات من هذا القبيل بمثابة كارثة قومية ووطنية للبلاد !.
هو الإله الوطني لبلاد بابل وشفيعها ، ولَقَبهُ ( الخنشا ) أي : صاحب الأسماء الخمسين التي خلعتها عليهِ الآلِهة بعد إنتصاره على التنين الأنثى تيامات التي كانت تُمثل الفوضى الكونية .
مردوخ هو إبن الإله الَذكَر ( أيا ) والإلهة الأنثى ( ذامكينا ) ، وزوجته هي الإلهة ( صربانيتوم ) ويعني إسمها : الفضية . أما إبنه فهو الإله الشاب ( نابو ) إله الحكمة والكتابة .
مردوخ كان يُلفظ في الأكدية ( مار دوكو ) ، ويفسره بعض الآثاريين إلى ( مار ) وتعني : السيد ، و ( دوكو ) بمعنى : الكون ، أي ( سيد الكون ) ، ونلاحظ أن كلمة ( مار ) لا زالت مستعملة عند مسيحيي العراق والشام كلقب للقديسين والأساقفة والمطارنة ، كقولنا : ( مار ابراهيم ) بمعنى ( سيدنا ابراهيم ) و ( مار بطرس ) بمعنى ( القديس بطرس ) وهكذا .
يُمثل الإله مردوخ كوكب ( المشتري – جوبيتر ) وسماه البابليون ( نبيرو ) ، ويعني في اللغة البابلية : ( المعبر ) ، وهو واحد من أسمائهِ الخمسين ، أما حارس مردوخ فكانت الأفعى الحمراء شروشو . ورمز مردوخ هو الثور، واسم مردوخ يعني : ( عجل الشمس ) ، ويُمثل مردوخ رب الأرباب وسيد السماء والأرض وملك كل الآلهة .
في الطقوس الدينية البابلية لم يكن أحد يجرؤ على مناداته بإسم ( مردوخ ) لقداستهِ !، بل كانوا ينادونه ( بيل أو بيلي ) وهي لفظة أكدية تعني “الرب” أو “السيد” سيدي ، وكانوا يُنادون زوجته صربانيتوم ( بيليتيا أو بيليثا ) أي : سيدتي .
يظهر مردوخ في تماثيله وهو يحمل ( العصا والدائرة ) ويرمزان للحياة والقدرة على منحهما ، كذلك يرمزان لحيازة السيادة على مجتمعين ونظامين : الرعوي الذكوري والزراعي الأمومي ، فالعصا تُمثل عضو الذكورة ، والحلقة تُمثل فرج الأنثى .
ولا زال الأحبار المسيحيين الرعاة من الأساقفة والمطارين في العراق يستعملون عصا في نهايتها العليا دائرة ، وهي رمز القيادة وعلامة الراعي ، ونلاحظ هنا عمق التواصل التأريخي في موروثات بلاد ما بين النهرين .
أما مهجع الإله مردوخ في الطابق العلوي ( الأنتمينكي ) من الزقورة البابلية التابعة لهيكل مردوخ فلم يكن يضم أي تمثال له ، وفيه دائماً إمرأة فائقة الجمال لخدمته !، ولم يكن يحق لأحد الدخول في ذلك البرج العلوي . وكانت مسيرات إحتفالات الأعياد وخاصةً الأكيتو تطوف حول البرج ، كذلك كان يفعل الحجاج الذين يزورونه من كل أطراف المملكة البابلية . وهذا يُذكرنا بحج وطواف المسلمين حول الكعبة !!.
إسمه السومري ( دموزي ) وعند البابليين الساميين ( تموز ) ، وهو مثل زوجته عشتار كان إلهاً للخصب وتجديد الحياة .
واحدة من أسباب شهرته وعبادته يومذاك كانت بسبب زواجهِ من الآلِهة عشتار ( الزهرة – نجمة الصباح ) آلهة الجمال والجنس والإخصاب والحب والعشق والشبق والحرب أيضاً ، والتي قامت كل الشعوب والأقوام القديمة بإقتباس شخصيتها وعبادتها وأعطوها تسميات محلية مختلفة ، لكنها تبقى في الأصل عشتار البابلية وإينانا السومرية .
و”إكراماً للإله تموز ، جعلوا من إسمه شهراً من أشهر السنة في التقويم الأكادي ، وهو الشهر الرابع من السنة السامية القديمة التي كانت تبدأ بشهر نيسان” .
اسطورة الإله تموز من ضمن الأساطير التي تتناول الموت المؤقت لبعض الآلِهة ، والتي ترمز لدورة الطبيعة السنوية عبر فصولها التي تتماوت في الشتاء لكنها لا تموت .. كما هي الآلِهة أو كما في حالة الإله تموز ، وكان لمثل هذه الأساطير وقع درامي مؤثر جداً على شعوب العالم القديم ، وربما كانت بعضها المُحَفِز الرئيسي لظهور المسرح في العراق القديم ، كونها تتزاحم وتضج بشخوص الصراع الدرامي !. لكل ذلك يعتقد البعض أن المسرح البابلي هو أقدم مسارح العالم ، ومنهُ بالذات أخذَ المسرح اليوناني القديم بداياتهِ الدرامية ال ( ديونسيوسية ) .
عنوانها البابلي هو ( إينوما إيليش ) وتعني ( عندما في الأعالي ) .
تدور أكثر حوادث هذه الأسطورة الشعرية حول الإله مردوخ وكيف أصبح أعظم كل الآلهة .
مُختصر أسطورة الخلق البابلية :
تتكون هذه الأسطورة الشعرية من نحو الف بيت جاءت في سبعة الواح نختصرها كما يلي :
(( في الأصل لم يكن هناك سماء ولا أرض ، فقط ( كاوس ) محيط الماء والفوضى الأولية والعماء الكوني والركود والصمت والخواء ، وإلهين قديمين بِدائِيَين هما ( أبسو ) الإله الذَكَر للمياه العذبة ، و( تيامات ) الآلهة الأنثى ( التنين أو الهولة ) للمياه المالحة وحاملة لوح المصائر ، ونتيجة لتزاوج هذين الإلهين فقد وُلد أول زوجين من الآلهة ( لخمو ولخامو ) اللذان ولدا ( أنشار وكيشار ) ، وهذان أنجبا الإله ( آن ) أو ( أنو ) الذي أولد الإله ( أيا ) على صورته .
يقوم الإله ( أيا ) بالقضاء على جَده الإله ( أبسو ) لأن أبسو أراد تدمير نسل الآلِهة الشابة من أحفادهِ بسبب ضجيجهم الذي بدأ يُزعجه وزوجته تيامات ، ثم من نسل ( أيا ) يولد الإله العظيم ( مردوخ ) .
بعدها تقوم الإلهة ( تيامات ) بإحداث ثورة عنيفة ضد كل الآلهة إنتقاماً لزوجها ( أبسو ) ، ولإنها أساساً كان قد أغضبها وأقلق راحتها صخب تلك الآلهة الشابة من أحفادها ، لِذا قررت إفناءهم وإستئصال نسلهم ومن ثم التنعم بالراحة !، وتروح تُحضر لمعركة فاصلة كبرى وتقوم بولادة جيش ( 12 وحشاً ) من نوعية الآلِهة الفاتكة الكاسرة المخيفة !!، فيخاف الإله ( أيا ) وكذلك ( أنكي ) ويتراجعان ويرفضان خوض الصراع والحرب ضد ( تيامات ) !، وهنا يبرز دور الإله الشاب ( مردوخ ) الذي يتطوع للحرب بغية الحصول على السلطة العليا في مجمع الآلِهة .
يتسلح مردوخ بالقوس والسهام والمطرقة الإلهية والبرق والشبكة والطوفان والرياح الأربعة .
يجري النزال الكوني الرهيب بين مردوخ وتيامات ، وبعد عدد من المناوشات المخيفة الخطيرة والكر والفر ينتصر مردوخ ، ويقوم بتشتيت وقتل جيش التنينة تيامات وسجن من تبقى منهم ، ثم يشق جسد تيامات نصفين “كما تُشق الصدفة” ليخلق نظاماً كونياً تكون السيادة فيهِ للذَكَر ، ويصنعُ السماء وقبتها المُرصعة بالنجوم من نصف جسد تيامات العلوي ، ومن النصف الآخر يصنع الأرض ، ثم يروح يُنظم عالم الآلهة والكون ، و يُتابع عمليات الخلق الأخرى .
لكل ذلك يقوم مجمع الآلِهة بتتويجهِ سيداً على الآلِهة السماوية وعلى الأرض ، ويتنازل له خمسون إلهاً عن أسمائهم وصفاتهم وقدراتهم )).
==========
* فعاليات أيام عيد الأكيتو البابلي :
قبل فجر اليوم الثاني يحضر الكاهن الأعلى ( شيشكالو ) إلى معبد الإله مردوخ ( الإيساكيلا – البيت الشامخ ) ، وبعد أن يغتسل بخزين ماء النهرين العظيمين دجلة والفرات يؤدي صلاته الخاصة أمام تمثال مردوخ ثم يسمح لبقية الكهنة بالدخول للقيام بواجباتهم الدينية المختلفة وتقديم الصلوات والإبتهالات للإله العظيم .
بعدها يتسلم الملك صولجانه من الكاهن الأكبر ، ويذهب إلى مدينة ( بورسيبا ) حيث يعيش الإله ( نابو ) إبن الإله مردوخ ، وهي على مبعدة ( 17 كلم ) من بابل ، حيث يقضي ليلة واحدة في ( أي زيدا ) وهو معبد الإله ( نابو ) ، وفي الصباح يطلب مساعدة الإله ( نابو ) في مهمة تحرير أبيهِ الإله ( مردوخ ) من أسرهِ وأغلالهِ في عالم الظلام الكوني ، ويدعوه للمجيء معه إلى بابل .
ملاحظة : الإله ( نابو أو نبو ) كان الإله القومي للكلدان ، ونسبة إليه وتيمناً بإسمه تسمى عدد من ملوكهم ، مثال : ( نبو نصر ) و ( نبو بلاصر ) و ( نبوخذ نصر ) .
بعد تقديم الصلوات والقرابين يقوم الكهنة بحمل مشاعل ومحارق الطيب لتطييب وتطهير أجواء المعبد ، كذلك تجري طقوس تطهير المعبد بماء دجلة والفرات ، ثم تقرع الطبول وتتعالى أصوات الكهنة في دعاء جماعي مهيب ، وتوقد المجامر والمباخر وتُنار أرجاء المعبد ، ويقوم فريق خاص من الكهنة بمسح أبواب المعبد المقدس بزيت السدر ( النبق ) .
ثم يقومون بذبح شاة والطواف بها في أرجاء المعبد ، ثم مسح جدران المعبد المقدس بدمها ، وهو نوع من الإعتقاد يُسمى ( الإستبدال أو البديل “بوخو” ) ويعتبر من الفروض الأساسية للتعزيم ، ويُعَبِرُ عن عملية إنتقال الذنوب البشرية إلى جسد الشاة المذبوحة ، والتي سيتم فيما بعد رميها لماء النهر الجاري الذي سيجرفها ويجرف معها كل ذنوب السنة المنصرمة وما حملت من مساوئ وأوزار وخطايا وذنوب !.
وعلى غرار ذلك فعل اليهود لاحقاً كإقتباس من بابل ، حيث كانوا يسوقون كبش فدائهم إلى الصحراء ويقومون بقذفهِ من مرتفع ما في عيد الكفارة ، وكما في عيد الأكيتو البابلي ، كان يستغرق عيد ( الفصح ) اليهودي أحد عشر يوماً أيضاً !.
بعدها يصل الملك إلى بابل قادماً من مدينة بورسيبا وبصحبتهِ الإله ( نابو ) حيث سيتركه عند بوابة ( أُوراش ) في الجانب الجنوبي الشرقي ، ويتوجه لوحدهِ إلى بوابة معبد الإيساكيلا ، حيث يقوم رئيس الكهنة بنزع كل شاراتهِ الملكية مؤقتاً ، وهي ( التاج والصولجان والحلقة والسيف ) .
داخل المعبد ينحني الملك بكل تواضع ورضِا لكبير الكهنة ( الشيشكالو ) الذي يصفعه بقوة على خدهِ ، ثم يسحبه بشدة من كلتا أذنيه ويُجبره على الركوع أرضاً أمام مذبح الإله مردوخ !، ويقوم الملك – روتين سنوي – بتقديم إعترافهِ أمام الإله مردوخ مؤكداً لهُ أنه حكم الدولة والشعب البابليين بكل محبة وصلاح وعدل ومساواة ، ولم يقم بأي عمل يضر بمصالح بابل أو يُغضبُ إلهها المحبوب مردوخ ، وإنه قام بصيانة ودعم أسوار بابل الشهيرة !.
وهنا يهمس الكاهن للملك : لا تقلق .. سيستجيب الإله مردوخ لصلواتك ويُعلي ويُبارك سلطانك ويسحق كل أعدائك .
ثم يصفعهِ ثانية على خده بقوة أشد من المرة الأولى !، والتي من المفروض أن تُسبب إنهمار دموع الملك ، وهذا يعني رضى الإله . ثم يُعيد الكاهن الأكبر إلى الملك شاراتهِ الملكية بعد تطهيرها بالماء المقدس .
كانت هذه الطقوس سنوية ثابتة ومهمة جداً ورمزاً لتواضع الملك وتذكيره بأنه من البشر الفانين وليس من معدن الآلِهة الخالدة ، كذلك تعني تجديد سلطة الملك الأرضي على مملكة بابل وتنزيههِ من كل خطيئة أو نقيصة قد تقف في طريقهِ كملك للحق والعدالة ! .
في المساء ، يُجلب إلى المعبد ثور أبيض يقوم الملك بذبحهِ بسكين التضحيات على مذبح المعبد ويرفعه كتقدمة للإله ، حيث كان تقديم التضحيات من أهم مظاهر العبادة في بابل .
حيث كانت تبدو طلائع مواكب المدن البابلية القادمة للمشاركة في الإحتفال ، يتقدمها موكب الإله ( نابو ) إبن مردوخ ، وعادةً كانت تفدُ بابل مواكب مدن يتراوح عددها بين 35 إلى 40 موكباً أهمها مدن أوروك ونيبور وأور وأريدو ، ولكل مدينة إلهها الخاص ، بعض المواكب كان يأتي عن طريق البر ، وبعضها عن طريق السفن في نهر الفرات .
كذلك يقوم الإله ( نابو ) بزيارة إله الحرب ( ننورتا ) في معبدهِ الخاص ، ويتفقان على خطة لقتال إلهين من آلهة الظلام في محاولة لتحرير والدهِ مردوخ ، ويقومان بتنفيذ الخطة فيما بعد بكل نجاح .
وشيئاً فشيئاً يزداد هياج الشعب وغضبه وعنفوانَ مشاعره وقلقه وشغبه حين كانت تمر عربة الإله مردوخ بجيادها ولكن بلا سائق في شوارع المدينة التي تضج بالناس الذين سلبتهم قوى الشر والظلام معبودهم وإلههم مردوخ !. وكانت العربة الفارغة بلا سائق ترمز لفوضى الكون قبل أن يقوم مردوخ بتنظيمهِ .
ثم يقومون بتقديم تمثيلية – إفتراضية – تُصور موت الإله مردوخ وإنتقالهِ إلى السماء ، ويخرج الناس عن بكرة أبيهم باكين منتحبين ممزقين ملابسهم وباحثين في كل الطرقات عن إلههم مردوخ ، وتسود الفوضى وطابع المآساة بينهم !، كذلك يخرج مع الشعب الكاهن الأكبر متبوعاً بمئات الكهنة باحثين عن الإله مردوخ الذي خانه وجرحهُ الخائن ( بعل – حتيتي ) !.
يزداد صراخ وعويل النسوة وهنَّ يُشاهِدنَ كاهنات المعبد وجوقة الممثلين المقدسة ينضمون للمأتَم الشعبي الكبير في شوارع العاصمة بابل ، وتقوم النسوة بتمزيق ملابسهن وإلقاء التراب على رؤوسهن وتجريح وجوههن بأظافرهن وهن يحرضن الشعب على إيجاد الخائن ( بعل – حتيتي ) والفتك بهِ !!. وهذا يُذكِرنا بشخصية ( يهوذا الأسخريوطي ) الذي خان السيد المسيح ، كما تُذكِرنا هذه الجموع الباكية الحزينة بمراحل درب الصليب وكذلك بطقوس الحزن في عاشوراء بسبب مقتل الحسين الشهيد .
أما الكهنة فيطوفون في شوارع المدينة صارخين : يجب العثور على الماء العجائبي المقدس ( حالزاكو ) الذي سيعيد الحياة لمردوخ !.
وبعيداً عن تلك المشاهد ، تقوم مجموعة من الكهنة بتنظيف تمثال الإله مردوخ وبقية تماثيل الآلِهة وإلباسهم حلة جديدة تحضيراً ليوم الغد السعيد .. يوم قيامة الإله المعظم .
أخرج يا بعل ( يا سيد ) .. أن الملك بإنتظارك .
وبعد أن يسقيهِ الكهنة الماء العجائبي المقدس تعود له الروح والحياة ، ويخرج تمثاله من القبر إلى حيث ينتظره الكهنة والآلِهة الأخرى الذين يقومون بإستقباله وتهنئتهِ بمناسبة قيامته المجيدة من بين الأموات ، ويأخذ مكانه في غرفة الأقدار ( دوكو ) وتتزاحم الآلِهة لتجديد ولائها لهُ ومنحهِ السلطة المطلقة وترديد أسماءهِ الخمسين ، وأثناء ذلك يقوم الملك تواضعاً بوظيفة رئيس الحجاب ، وكعادة مردوخ كل سنة يُملي شروطه على مجمع الآلِهة ، بينما جموع الشعب الصارخة خارج المبنى تُرعِد إحتفالاً بعيد قيامة مردوخ :
ها قد قام مردوخ العظيم من بين الأموات !!!.
وتبدأ تماثيل الآلهة مع جموع الشعب مسيرتها في شوارع المدينة ، وتبلغ ذروة الإحتفال والصخب والبهجة قمتها حين يصل تمثال ( صاربنيتوم ) زوجة مردوخ وهي تتقدم موكبها العظيم حاملة بين ذراعيها تمثالاً لطفل صغير !، ومُحاطة بمجموعة من الكهنة والكاهنات المقدسات ، والكل يُنشد ويرقص ويشرب ، ومن الجهة المقابلة يتقدم موكب ( عشتار ) إلهة الحب والجنس والحرب والشبق والمعارك والبطولات ، واقفة على جسد أسد كبير وعلى رأسها تاج الذهب والجواهر ، وهي تتقلد سلاح القوس والكنانة والسهام .
ويتم تمثيل مقاطع حية من ملحمة الخليقة ، ثم تُقام إحتفالات وعروض مسرحية درامية شهيرة لبعض الأساطير التي كان يلعب الإله مردوخ الدور الرئيسي فيها .
بعدها يذهب مردوخ – كعادته كل سنة – للإقتران بعروسه ( صربانيتوم ) ، إذ كان الجنس من ضمن الطقوس الضرورية الثابتة في ( الزواج المقدس ) المرتبط بعيد الأكيتو ، وكان ذلك يتم في مخدع مردوخ الخاص في الطابق الأعلى من الزقورة البابلية ، أما المضاجعة الفعلية فكان يقوم بها سنوياً الملك مع إحدى كاهنات المعبد لإتمام وضمان تلقيح وخصوبة الأرض والحياة للسنة الجديدة المباركة .
ملاحظة مهمة جداً :
كان لأخذ الملك يد الإله مردوخ أهمية قصوى وخطيرة ، وضرورة مشدد عليها في بلاد بابل ، وأي ملك لا يقوم بأخذ يد الإله مردوخ لم يكن يُعترف بهِ ملكاً شرعياً على ( كل ) بلاد ما بين النهرين ، بل كان سيكون ملكاً محلياً فقط ، لأن بابل كانت تعتبر مصدر السلطة الشرعية في كل بلاد ما بين النهرين حتى أثناء سنوات التسلط العسكري عليها من قبل الآشوريين أو الفرس أو غيرهم . ولتوضيح هذه الملاحظة أكثر نعود لكتاب ( قوة آشور – ص 134 ) حيث يروي المؤلف هاري ساكز ما حصل بعد فترة إحتلال الجيش الآشوري لبلاد بابل في تلك الفترة : [ في عام ( 729 ق . م ) أخذ الملك الآشوري ( تجلا تبريزر الثالث ) يد الإله مردوخ البابلي ـ أي رافقهُ – في إحتفالات السنة الجديدة في بابل ، وبهذا مُنِحَ الملكية على بلاد بابل ، وهي وظيفة لم يحصل عليها أي ملك آشوري خلال أربعة قرون ] .
أما الكاتب الكلداني الشماس كوركيس مردو ، فيقول في كتابه ( الكلدان والآشوريون عبر القرون ) ص 160 بتصرف : [ لم يكن أمام الآشوريين إلا الإعتراف بالثقافة البابلية ، والإقرار بأولوية كبير الآلِهة البابلية ( مردوخ ) ، وهذا ما فعله الملوك الآشوريين الذين بسطوا هيمنتهم في زمنٍ ما على بابل ، ومنهم سركون الثاني ومن قبله تغلث بيلاصر الثالث وشلمنصر الخامس ، حيث حملوا لقب الملوكية على بابل بعد إدائهِم الطقس المُتبَع ، وهو قيام الملك بقبضِ يَدَي بيل ( تمثال الإله البابلي مردوخ في معبده إيساكيلا ) ] .
وإلى عام جديد وعيد أكيتو سعيد في السنة القادمة .
==========
أسباب عيد الأكيتو :
* الترحيب والإحتفال بالطبيعة والإبتهاج بقدومها وبخيراتها الموسمية ، ويتلخص ذلك في رموز أسر الإله تموز الذي يتم الإستعاضة عنه بالإله مردوخ في أيام الأكيتو ، وغيابه لنصف سنة في عالم الأموات الأسفل ، ومن ثم بعثه وقيامته ، وهذا يحدث كل سنة ويرمز للطبيعة وحلول الشتاء وموت الزرع والخضرة ومن ثم عودتهما في فصل الربيع والصيف .
* إحتفالاً بإنتصار الإله مردوخ على الإلهة التنينية تيامات ، وقيامه بخلق وتنظيم الكون . وهو رمز رائع لمقاومة أزلية القوى العدمية المتصدية لحركة الكون بُغية إعادتهِ إلى حالته السكونية الأولى .
* إعادة تتويج الملك الأرضي ، وتجديد صلاحيته وسلطته ، حيث كان ملوك وحكام بلاد ما بين النهرين يعتبرون أنفسهم وكلاء أو مستأجري أرض الإله ، ويتعين عليهم تجديد عقد الإيجار من الإله كل عام وتحديداً في عيد الأكيتو ( رأس السنة ) .
وحتماً لن ننسى السبب الإقتصادي ، حيث كانت مدينة بابل تزدحم بالزوار من كل المدن الأخرى كما هي الحال اليوم في شهور الحج للمدن الدينية المقدسة لكل الأديان ، وما يصرفه الزوار من مبالغ طائلة كل عام .
==========
إحتفالات بعض الشعوب والأقوام بعيد الربيع :
مع محاولة متواضعة مخلصة لإيجاد العائدية التأريخية لهذا العيد ، لأن الكل يَدَعونَ شرف ذلك ، والحق هو السبب الأول الذي دعاني لكتابة هذا البحث :
يُعتبر يوم 21 آذار العيد القومي ويوم الإعتدال الربيعي ورأس السنة الفارسية في إيران ، وتُعطل فيهِ كل الجهات الحكومية والأهلية إعتباراً من 20 آذار ولمدة خمسة أيام ، والمدارس والجامعات لمدة أربعة عشر يوماً .
وأثناء هذا العيد تُخفف الأحكام عن المساجين ، ويَصطَلِح الناس فيما بينهم وينسون أحقادهم وخِلافاتهم ، ويُطعمُ الفقراء والمحتاجين ، وتُزارُ قبورُ الموتى وتُكَرَمُ أرواحهم ، فهو عيد الإنسانية والفرح وإيقاظ مشاعر الرحمة في قلوب البشر ، وهذا رائع حقاً .
يقول الكاتب وليم الخازن في كتابهِ ( الحضارة العباسية ) ، بتصرف : [ في زمن العباسيين تم إعتبار عيد الربيع عيداً رسمياً ، وبإسم ( نيروز ) ، ولم يكن ذلك يعني بالضرورة أن هذا الإحتفال كان فارسياً !، لأن الفرس إقتبسوا فكرة هذا العيد خلال قرون السيطرة الفارسية على العراق بعد سقوط مملكة الكلدان في بابل ( 539 ق.م ) ، بدليل أنه في
زمن العباسيين كانوا يُطلقون على هذه المناسبة أحياناً تسمية “الربيع الشامي” ، وفي مصر أطلقوا عليه تسمية “نيروز القبطي” ] .
أما الكاتب سليم مطر فيقول في كتابه الشهير ( الذات الجريحة ) : [ يبدو أن الإيرانيين ، حتى قبل إحتلالهم للعراق وإسقاطهم للدولة البابلية سنة ( 539 ق . م ) ، ظلوا يقتبسون الحضارة العراقية من كتابة ولغة وفنون وعلوم وأفكار دينية ، ومن جملة الأمور التي إقتبسها الإيرانيون كان التقويم البابلي وتقسيم السنة ، وبالذات ( عيد السنة العراقية ) ، وأطلق الإيرانيون على هذا العيد العراقي تسمية ( نيروز ) وتعني : اليوم الجديد ، ويُشير إلى هذه الحقيقة جميع من كتبوا عن تأريخ إيران ، ومنهم المؤرخ الشهير ( آرثر كريستنسن ) في كتابهِ ( إيران في عهد الساسانيين ) ] .
يوم 21 آذار هو العيد القومي وعيد رأس السنة الجديدة عند الأكراد . وفي كردستان العراق يتم تعطيل كل المؤسسات الرسمية والأهلية في هذا اليوم إعتباراً من 20 آذار ولمدة أربعة أيام ، ويتم إيقاد شعلة نوروز في كل المدن الكردية ، والتي يُسمونها شعلة ( كاوة الحداد ) .
وبخلاف بقية الشعوب فإن عيد نوروز الربيعي يعني عند الأكراد ذكرى قومية ليوم تحررهم من الظلم والعبودية !، حتى وإن كان ذلك من خلال ملحمة رمزية خرافية شعبية ( كاوة الحداد ) يعتقد بعض الكتاب والمحللين إنها مُقتبسة من إحدى قصص أسطورة ( الشاهنامة ) الفارسية ! .
تقول الأسطورة الكردية ( بإختصار ) : كان هناك ملك آشوري شرير إسمه ( الضحاك ) !!، وفي مصادر أخرى يقولون أنه كان من ملوك الفرس !، والذي بسبب شروره الكبيرة – ومنها ذبحه لأطفال الكرد- تغيب الشمس وترفض أن تشرق ثانية !، وحتماً غيابها أدى إلى موت الحياة النباتية وجوع البشر ، وبعد كذا وكذا من الأحداث الدرامية يبزغ نجم
بطل قومي كردي إسمه ( كاوة الحداد ) ، الذي سيشعل النار في قلعة الضحاك ويقوم بقتلهِ ، عندئذٍ فقط تشرق الشمس ثانيةً !!، ويعود للأرض خصبها ورونقها وإخضرارها ، وبهذا تصبح نار قلعة الضحاك رمزاً لعيد النوروز الكردي !.
يقول ( ياقوت الحموي ) في كِتابه ( معجم البلدان ) : [ تدعي العجم أن الملك الضحاك كان له ثلاثة أفواه ، وست أعين ، وقد مَلَكَ الف سنة إلا يوماً واحداً ونصف يوم !، ثم أسَرَهُ ( أفريدون ) وحبسه في جبل ( زنباوند ) ، والعجم يعتبرون يوم أسر الضحاك عيداً ، وهو المهرجان ] !!.
وبعد كل ذلك يطلب الأخوة الأكراد مِنا أن نصدق أن عيداً عمره عدة آلاف من السنين الحضارية هو من صنيعتهم !!!؟ علماً بأنه لم يكن للأكراد أي ذكر في التأريخ يوم كان هذا العيد يُحتَفَلُ به في بلاد ما بين النهرين !!، لأنهم آخر الأقوام التي نزحت إلى العراق في أوقات لاحقة وحديثة نسبياً !.
موضوعي المطروح اليوم ليس تحاملاً أو هجوماً عنصرياً أو طائفياً على أحد كما سيدعي البعض حتماً كمحاولة لتسطيح الموضوع وتسفيه ما هو مطروح ، بل حقيقة إستََفَزَها إدعاء البعض لعائدية هذا العيد لهم ، ومنهم الأخوة الأكراد الذين كردوا الكثير مما ليس لهم في القرنين الماضيين ، وهذه أمور من المفروض أن يكون صَمام أمانِها النزاهة ومعقولية الإدعاء وثبات الحجة ! ، ومن الخطأ التعامل مع التأريخ على مبدأ الشاعر : ولكن .. تؤخذ الدنيا غلابا !.
وحول ذلك يقول الكاتب أنيس فريحة في كتابهِ ( دراسات في التأريخ ) : [ يبدو أن هذا العيد إنتقل إلى سوريا مع إنتقال معظم الميراث السومري إلى الساميين ] .
ونحنُ نعرف أن السوريين إحتفلوا بهذا العيد منذ أزمان بعيدة تسبق أي شعب آخر عدى شعب وسط وجنوب العراق ، وكانت واحدة من الشواهد الصارخة على إقتباسهم هو أنهم حولوا إسم الإله الرافدي ( دموزي – تموز ) في هذا العيد إلى إسم ( أدون – السيد ) !، ومنهم إنتقل الإسم إلى الإغريق تحتَ تسمية ( أدونيس ) !.
وقد عُثر على لوح طيني سومري يعود للألف الأول قبل الميلاد مكتوب عليه التفاصيل الكاملة لإحتفالات عيد الأكيتو في العراق القديم .
لا زلتُ أحتفظ لحد الأن بالصورة الفوتوغرافية الوحيدة لنا في ذلك اليوم السعيد ، وتظهر في الصورة إلى جانبنا سلة طعامنا في عيد الربيع ( السمبوسك والبيض والبطاطة المسلوقان والعمبة الهندية وساندويجات البتيتة جاب واللسانات وأنواع الطرشي والمخلل والطماطم والكرفس والمعدنوس والرشاد والكراث والخس والفواكه والمكسرات ) .
كانت الكثير من العوائل البغدادية تقوم في هذه المناسبة بسفرات إلى مناطق قريبة من بغداد مثل ( سلمان باك ، الحلة وبابل ، بعقوبة وبساتينها الشهيرة ومنطقة الهويدر ، أبو غريب ، تل عكركوف ، ملوية سامراء ) ، وغيرها الكثير من الأماكن الجميلة التي لا تحضرني أسماؤها الأن .
وكما نرى … هي نسخة كاربونية لنغمة رافدية فيها بعض تحوير من أسطورة الإله ( تموز ) البابلي ، ومن يقرأ عن أساطير الإغريق واليونان يعرف أن معضمها مُقتبس من أساطير بلاد ما بين النهرين ، والتي إنتقلت إليهم عبر الكنعانيين والفينيقيين ، والعبريين لاحقاً .
في ويكيبيديا الموسوعة الحرة ، تقول كل المعلومات المنشورة هناك : [ أن عيد شم النسيم المصري يرجع الإحتفال بهِ إلى نحو ( 2700 ق. م ) ، وبالتحديد إلى أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة . وله تسمية أقدم هي عيد النيروز القبطي .
وترجع تسمية ( شم النسيم ) إلى الكلمة الفرعونية “شمو” وهو عيد كان يرمز عند قدماء المصريين إلى بعث الحياة ، وكانوا يعتقدون أنه أول الزمان وبداية خلق العالم ] .
وكما بينت في متن المقال ، فإن إحتفال العراقيين القدامى بهذا العيد يعود للفترة الواقعة بين الألف الرابع والخامس ق . م ، وهذا يجعل الإحتفالات بهذا العيد في منطقة وسط وجنوب العراق أقدم تأريخاً من أي إحتفال آخر بهذا العيد .
أما عن الأشوريين !، فيتطلب الأمر مني توضيح العقدة التأريخية الحاصلة بين الآشوريين والكلدان البابليين لفهم الإشكال الحاصل بين الشعبين اليوم ، والذي أكبر أسبابه التأريخية إنهاء الكلدان لكيان الدولة الآشورية إلى الأبد سنة 612 ق. م ! ، والتي بسببها لا زال الآشوريون يحملون كل أنواع الضغينة تجاه أخوتهم في الدين من الكلدان البابليين رغم مرور بضعة آلاف من السنين على تلك الأحداث التأريخية !!.
والحق مللنا قراءة وسماع ومشاهدة إلحاح الأخوة الآشوريين ومناكداتهم وتزويراتهم البائسة الدائرة في أفلاك عديدة منها إدعاؤهم عائدية هذا العيد التأريخي لهم في كل وسائل إعلامهم ! .
وكل ذلك لعمري نكتة فجة تفتقد الظرافة ، وقرار غير عقلاني يخلو من الموضوعية والمسؤولية ، وسرقة تأريخية مُخجلة تماماً رغم أنها ليست أول سرقة تُشين الأخوة الآشوريين ، وليست أول مناكدة وتحرش معاصر لهم بالكلدان البابليين ، والظاهر أن تبعيتهم الثقافية والحضارية التأريخية لبابل والكلدان ، وعدم غفرانهم لهم بسبب نهاية دولتهم آشور على أيدي الكلدان ، قد سببت لهم عقدة نفسية تأريخية يأبى الأخوة الآشوريون فهمها وإخمادها في نفوسهم رغم مرور أكثر من 2500 سنة !!، وقد صدق الكاتب ( د. جون أوتس ) في كِتابه ( بابل تأريخ مُصور ) حين قال ( بتصرف ) : [ بعد إنتهاء غزو بابل من قبل الملك الآشوري – تكولتي ننورتا الأول – نقل الآشوريون المتعطشون للحضارة البابلية أعداداً كبيرة جداً من الألواح المسمارية البابلية إلى بلادهم آشور ، بوصفها غنائم حرب ، وبقيَ الإهتمام الآشوري المفرط ببابل وتناقضاتهم معها يُثير المتاعب لمملكة آشور الشمالية طيلة القرون الستة اللاحقة ] .
وهذا لوحده يقول لنا أن الآشوريين لم يكن يهدأ بالهم حتى حين كانوا يُحققون إنتصارات عسكرية على بابل ، كونهم أدركوا أن بابل قد إنتصرت عليهم عبر كل التأريخ في كل شيء آخر ، ورغم أنها رزحت تحت نير إحتلالاتهم العسكرية زمناً طويلاً ، لكنها أنهتهم في النهاية وأخرجتهم من التأريخ عقوبة لهم على كل سلبياتهم وحسدهم لبابل خلال قرون عديدة ، والتي كان من نتائجها تخريبهم ونهبهم لبابل عدة مرات ، لكن بابل كانت تقوم من خرابها ورمادها كطائر الفينيق وبكل عناد وضراوة وإصرار على متابعة دورها كحضارة أعطت العالم أولى إشعاعات الفكر الإنساني .
المؤلف والآثاري ( هاري ساكز ) ألَفَ كتابه ( قوة آشور ) لتبيان عظمة الأمبراطورية الآشورية ، ويقول في ( ص 10 ) : [ أمضيتُ أكثر من نصف حياتي في دراسة الآشوريين ، وسيلحظ القارئ فوراً بأني في الواقع أحب الآشوريين ] .
ولكن مع كل هذا الحب يبقى المؤلف ( هاري ساكز ) مُخلصاً لقول وتسجيل الحقيقة العلمية ، ولا يملك إلا أن يتعجب من بعض تصرفات وسلوك الأشوريين ومحاولاتهم التأريخية المتكررة للتزييف والسرقة من الكيان البابلي وأولها ما قاله عن سرقة عيد الأكيتو :
على ( ص 296 ) يقول ( بتصرف ) : [ أحد الإحتفالات كان يُسمى ( أكيتو ) ، ويُترجَم غالباً ب ( عيد رأس السنة ) ، وقد استخدمت هذه الترجمة لأن العيد أصبح كذلك في مدينة بابل ، وكان يُعقد في الأيام الأولى من الشهر الأول ( نيسان ) من السنة ، وفي بابل كان يحتوي على تلاوة قصة الخليقة بأكملها ، وهي تمثيل المبارزة الطقسية بين إله المدينة ( يقصد مردوخ ) وبين تيامات المخلوق البدائي وهي إمرأة وتنين ، والزواج المقدس ، ومراسيم أُعدت لضمان رفاهية المدينة للسنة المقبلة ، وتتويج الملك الأرضي
مجدداً. ولكن ليس من المفروض أن نرى عيد الأكيتو في بلاد آشور كنسخة لما هو عليهِ في بابل بكل التفاصيل !. مع إشارات قوية إلى أن معظم ما كان يحدث مُشابهاً لعيد الأكيتو في بابل ، وقد لا يُمثل ذلك تقليداً آشورياً قديماً ، ولكنه تأثير حديث نسبياً من بابل ] !!.
وهنا يتبادر إلى أذهاننا أن ذلك كان تصرف حرامي سرق بسبب حسدهِ فقط ، ولم يُفكر : هل سيكون بإمكانهِ إستعمال المادة المسروقة !؟.
من كِتابهِ ( بلاد الرافدين ) ترجمة الأب البير أبونا ، بتصرف : [ منذ سنة (1750 ق . م ) أصبحت بابل العاصمة السياسية ثم الثقافية للبلاد ، وبابل تُمثل بصورة إعتيادية النصف الجنوبي وحدهُ من حدود بلاد الرافدين . أما بلاد آشور فقد كانت دائماً خاضعة ثقافياً لبابل ، وعلى إختلاف نُظمها السياسية اللاحقة ، وخلال إزدهار عواصمها بالتتابع ( آشور وكالخو وخرسباد ونينوى ) ] .
تحت يدي العشرات من آراء الكتاب العالميين في موضوع السرقات الآشورية من بابل ، ولكن … البحث طويل جداً ولا يحتمل المزيد .
برأيي الشخصي هذا ناجم عن جهل أو تجاهل وكلاهما يُشين ويُعيب الأخوة الآشوريين الذين يُحاولون اليوم وبكل ما يملكون من دهاء وخبث سياسي في العراق وخارجه تهميش الكلدان على كل الأصعدة ، حتى لو كان ذلك بالتزوير والكذب واللعب على حبال المسؤولين من العرب والأكراد في سبيل تحقيق ذلك !، وأكثر ما يُغيضهم اليوم هو أن نسبة عدد الكلدان العراقيين هي 75 ٪ من مجموع المسيحيين العراقيين في الداخل والخارج ، بينما يؤلف الآشوريون والسريان بقية ال 25٪ من العدد الإجمالي ، وهذا لا يُتيح لهم أي فرصة في البرلمان العراقي إلا إذا كانت مفروضة ومزورة ومحمية من قبل المسؤولين العرب والأكراد ، وقد حقق الأشوريون ذلك من خلال طُرق ملتوية لم تعتمد العدالة والنزاهة ، والتي رافقتها خدماتهم لبعض الظَلَمَة من المسؤولين والمتنفذين المهتمين بمصالحهم الخاصة فقط !، بينما لا زال الكلدان رغم تفوق عددهم لا يملكون أي مقعد في البرلمان !!!، فأين العدالة والحقوق في كل ذلك ؟.
أعتقد في ما ذكرتُ من أدلة ، كفاية لإثبات أن هذا العيد ( أكيتو ) ليس له أية عائدية للأقوام الآشورية ، وهم مُقتبسين ليس إلا !.
أحتَرِمُ آراء الباحثين والعلماء والكتاب الذين لهم مصداقية عند القارئ المحترف والذين يكتبون من أجل المعرفة والحقيقة فقط ، لِذا وإستناداً على الكثير الكثير الذي قرأته عن الموضوع فقناعاتي تقول أن الأقوام السامية – الفراتيين الأوائل – التي سبقت الإستيطان السومري في العراق (عصر أريدو والعبيد والوركاء وأور وأوروك وكيش) قد إمتزجت
وإنصهرت حياتياً مع السومريين ، وإحتفلت بهذا العيد معهم أو إحتفلوا معها ، بحيث لا أحد يستطيع اليوم أن يقول بعائدية هذا العيد للساميين أو للسومريين ، فهذه أحداث من الصعب إقتفاء آثارها بدقة تأريخية ! ، لِذا أتساءل : ماذا حدث لكل تلك الأقوام السامية والسومرية التي عاشت في وسط وجنوب العراق والتي إحتفلت قبل كل العالم بأعياد الربيع ؟!، هل رحلوا إلى كوكب آخر مثلاً !، أم تبخروا ! أم تم رفعهم عن الأرض بقدرة خارقة وإستبدالهم بالأكديين والبابليين والكلدان ؟
كل هذا ليس وارد في منطق العلم حتماً ، بل يقول العقل والمنطق أن ديمومتهم إستمرت على نفس التربة وفي نفس المدن ، ولكن تحت مسميات مدينية وقومية وقبيلية ومناطقية ودينية جديدة ومختلفة ولأسباب وإعتبارات تأريخية عديدة لسنا بصدد التطرق لها الأن .
في مقال نُشر في جريدة المؤتمر قبل سنوات ، يقول الكاتب سليم مطر : [ هناك صورة خاطئة فرضها المؤرخون التوراتيون والمستشرقون على التأريخ العراقي وكذلك التأريخ الشامي ، توهِمُ بوجود شعوب عديدة متلاحقة : ( أكدية ، عمورية ، كلدانية ، آشورية ) بينما الحقيقة أنها لم تكن شعوباً بقدر ما كانت سلالات ، فهل يصح مثلاً الحديث عن الشعب ( الأموي ) والشعب ( العباسي ) اللذين كانا سلالتين مُختلفتين من شعب واحد !؟ ] .
لِذا يصبح من حق البابليين في أقليميَ الوسط والجنوب وعلى إختلاف تسمياتهم اللاحقة ومنها ( الكلدان ) إدعاء عائدية هذا العيد لهم ، قبل عائديتهِ لأي شعب آخر كالآشوريين مثلاً ، أو الشعوب الشرق أوسطية من الذين إقتبسوا هذا العيد لاحقاً وفي أزمنة مختلفة .
الحضارة جهد مُشترك لبني البشر ، وهي ترحل وتنتقل وتتبدل وتتطور عبر الزمكان ، لكنها لا تُسرق أو تُدعى ، لأن خلف كل إنجاز حياتي أصل و “براءة إختراع” تكون من حق الصانع الأول ، والحضارات القديمة نمت وأينعت وأثمرت ثم ماتت … فكما تموت الأشجار كذلك تموت الحضارات ، ليأتي بدلها ويحل محلها حضارات أخرى جديدة فتية تولد من رحم الحضارات المحتضرة ، بالضبط كتجدد تموز وعيد الربيع وتوالي الفصول ، هي دورة الأفلاك ، والمنطق يقول “موت الحضارة .. يعني إنتقالها في المكان” .
لِذا يكون من حق كل الأمم والشعوب والقوميات الإحتفال بهذا العيد الذي أصبح عالمياً ، فالربيع والإحتفال والفرح ليسوا حكراً على أحد ، لكن إدعاء البعض لعائدية هذا العيد تأريخياً يجعلنا نقف بحزم وصلابة لنقول رأينا التأريخي الفاصل في الموضوع ، وبرأيي هي ضرورة لا بد منها لإيقاف المدعين أو السراق ، وهو حقنا المشروع في الدفاع عن تأريخنا وحضارتنا وتراثنا البابلي الكلداني وما لنا فيه من بصمات وأحداث ، وعيد الأكيتو حتماً واحد من أحداث تأريخنا الذي نشارك الآخرين به ، ولكن لن نسمح لهم أبداً أن يَدَعوهُ لهم ، والتأريخ هو الحكم دائماً .
المجد للإنسان .
الحكيم البابلي = طلعت ميشو – 25 آذار 2012
==========
مصادر المقال :
مقالات لكتاب عراقيين كثيرين في مقدمتهم الكاتب والمؤرخ الكلداني المُعاصر السيد ( حبيب حنونا ) .
التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب ..……. علي الشوك .
جولة في أقاليم اللغة والأسطورة …………… علي الشوك .
مقدمة في أدب العراق القديم ……………………. طه باقر .
مدخل إلى حضارات الشرق القديم ……. ف . فون زودن .
تأريخ حضارة وادي الرافدين ……………… أحمد سوسة .
الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور ..…… جورج كونتينو .
من الواح سومر ……………….……… نوح صمويل كريمر .
تأريخ الفكر في العراق القديم ….……. الأب سهيل قاشا .
الكلدان منذ بدء الزمان ……………………… عامر فتوحي .
قاموس أساطير العالم …………….…….……. آرثر كورتل .
الكلدان والآشوريون عبر القرون ……….. كوركيس مردو .
الذات الجريحة …………….…….…………….. سليم مطر .
قوة آشور ………………………….………….. هاري ساكز .
دراسات في التأريخ ………………….…….. أنيس فريحة .
مغامرة العقل الأولى ……………..………. فراس السواح .
أحسنت وبارك الله فيك أخي العزيز
السيد لؤي فرنسيس المحترم، أؤيد الاخوة اعلاه واريد اضافة شيء الا وهو ان منطقة سهل نينوى التي يكثر فيها المسيحيين…
الأعزاء أودا و فرج اسمرو المحترمين نعزيكم بوفاة المرحومة المغفور لها شقيقتكم إلى الأخدار السماوية، أسكنها الله فسيح جناته الرحمة…
الراحة الابدية اعطها يا رب و نورك الدائم فليشرق عليها. الله يرحم خلتي مكو الانسانة المحبة طيبة القلب. مثواها الجنة…
Beautiful celebration Congratulations! May God bless Oscar and bless his parents and all the family and relatives