أزمة الندايي واليباسي عكست تمسك الشعب الكلداني بتراثه وتاريخه .. قراءة في كتاب
وهكذا اعود اليوم لكتابة مقال وأنا على متن الطائرة في طريق العودة من القوش الى اوسلو مستفيداً من قراءتي لكتاب الأب المرحوم الدكتور بطرس حداد ، وهو تحت عنوان : الندايي واليباسي ، ازمة هزت الكنيسة الكلدانية ( 1869 ـ 1889 ) ويقع الكتاب في 112 صفحة من منشورات مركز جبرائيل دنبو الثقافي ، نينوى 2009 ، والكتاب يتعرض لمشكلة عصفت بالكنيسة الكلدانية ،وقسمت شعبها الى قسمين ، هذا وقد تعرضت في كتابي غير المطبوع لهذه المشكلة تحت عنوان ضجة في صف الكنيسة .
والقراءة المقارنة لهذا الكتاب رغم انه صغير الحجم لكنه غزير بالأحداث والوقائع ويمكن ملاحظة تشابه بما يحدث اليوم من اختلاف في وجهات نظر على نطاق كنيستنا الكاثوليكية وشعبها الكلداني .
في مدخله للكتاب يقول المؤلف ص5: يطيب لي ان اتطرق الى البحث في حقبة تاريخية مهمة عاشها شعبنا الكلداني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وكانت هذه الحقبة بمثابة مخاص عسير وصعب لكنها انتهت بخير ..
ومن قراءة الكتاب يبدو ان بداية تلك الأحداث كانت بين قطبيها قداسة البابا بيوس التاسع (1846 ـ 1878 ) وبين البطريرك الكلداني يوسف السادس اودو ( 1847 ـ 1878 ) . وكانت نهايتها على يد قداسة البابا لاون الثالث عشر ( 1878 ـ 1903 ) والبطريرك الكلداني مار ايليا الثاني عشر عبو اليونان ( 1878 ـ 1894 ) . ونبدأ بقرءاة فقرات متناثرة من هذا الكتاب مع إبداء بعض الملاحظات .
يقول الكاتب عن البطريرك يوسف اودو ص9 :
كان له نظرة ابوية عليا على كل ابناء رعيته وكان له التفاتة خاصة الى ابناء الكنيسة الكلدانيـــــــــــة المهملين في الملبار ( الهند) الذين كانوا يطلبون من وقت الى آخر من بطاركة الكلدان إرسال أساقفة لهم من طقسهم وإدراتهم وتعليمهم ، لأنهم ملّوا إدارة المرسلين الغرباء عنهم .انتهى
في الحقيقة كان البابا بيوس التاسع يريد من البطريرك الكلداني تقديم مظاهر الطاعة فحسب ، فحينما كلف البطريرك الكلداني المطران توما ـ روكس خنجريان بالرحيل الى الملبار كزائر باسم بطريرك بابل وأساقفة الكلدان ، فيهرع القاصد الرسولي دون اي تفويض رسمي ويهدد بالحرم كل من يسافر الى الهند ، ويأمر بالخضوع التام لتعليمات روما على يده .
وفي طريقه ( البطريرك الكلداني يوسف اودو ) الى مجمع مسكوني يدعو اليه البابا ، وفي بيروت يستلم البطيريرك وثيقة بابوية عرفت باسم ( البوللة ) ، وتحتوي هذه الوثيقة تعليمات تعلق كل التعيينات وانتخاب البطريرك والأساقفة وإدارة اوقاف الكنيسة الكلدانية تجعلها جميعاً من صلاحية روما ، وقد امهل البطريرك الكلداني 40 يوماً لكي يتراجع عن كل قرارات التعيين وغيرها وإلا فإن قداسته سيرشقه بالحرم الكبير وفي النهاية يكتب البطريرك الكلداني عن خضوعه التام لا بل استسلامه الكلي كأبن بار للكنيسة .
وهنا كان رفض قسم من الشعب الكلداني لهذا التنازل واعتبروه خضوعاً فنشأ جراء ذلك حزب اليباسي ، والذي ادعى انه يدافع عن الأصالة الشرقية ، والحزب الآخر المعاكس سمي حزب ( الندايي) الذي انطلق من مبدأ الوقوف مع الشرعية .
حضر الباطريرك الكلداني المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول وكان في 8 كانون الاول 1869 وأراد ان يقنع خلال هذه الجلسات الحاضرين بشرعية موقفه حيث يرى الفروقات الكبيرة بين الحقوق والأمتيازات والعادات ليست المدنية فحسب بل الكنسية ايضاً .. الموجودة في كنائس الطرفين وقوله : اليست بعيدة عن بعضها كبعد المشرق عن المغرب ؟ وقد قاوم لتينة ( من اللاتين ) طقوسه الكلدانية الشرقية ، وقد ورد ص23 ان الشعب الكلداني كان يتابع اخبار البطريرك ومواقفه إذ كان يرى فيه انه رجل الساعة الذي يعمل من اجل المحافظة على كرامة الطائفة ، وكان الشعب المسحوق والمضطهد في محيطه من قبل السلطة العثمانية الغاشمة يرى في الرئاسة الكنسية ملجأً له ..
كانت ثمة معضلة اخرى وهي امتناع البطريرك الكلداني التوقيع على ( عصمة البابا) فقد قبلتها الكنيسة واصبحت عقيدة ايمانية على كل كاثوليكي ، وقد وقعها كل بطاركة الكنائس الشرقية ، لكن في نهاية المطاف يقنعه القنصل الفرنسي على التوقيع على الوثيقة ووعده بأن يجد حلاً مرضياً لأمتيازات وصلاحيات البطريرك الكلداني مع روما عندئذ وجه غبطته رسالة بخط يده بالكلدانية الى قداسة البابا وذلك بتاريخ 29 تموز سنة 1872 جاء فيها :
أعلن بوضوح عن إرادتي لقبول .. رسوم وتحديدات المجمع الفاتيكاني المسكوني وبصورة خاصة قانون حفظ الحبر الأعظم قداسة بابا روما وتعليمه الذي يتطرق فيه الى مسائل الأيمان ..
كان موقف البطريرك الكلداني صعباً ويحتاج الى حكمة وتعقل ليوازن بين واجبه الديني بالخضوع التام لروما وتطبيق تعليمات وثيقة ( البوللة = مؤيديها عرفوا بالندايي كالنبتة الطرية التي تتأقلم مع الظروف المناخية اي يكون فيها مرونة للتكيف مع الوضع : Flexibility ) وهو يريد ان يبقى مع عقيدته الأيمانية وبين شخصية وكرامة شعبه الكلداني الذي لا يريد الأفراط بحقوقه الثقافية وامتيازات رؤسائه التي اكتسبوها عبر الزمن . فيقول الكاتب ص31 : بينما كان الشعب الكلداني في غليان فهذا يؤيد البطريرك ويصفق لتصرفاته ومواقفه الشجاعة ، كان آخرون يعلنون الويل والثبور ويهددون بعظائم الأمور ضد هذا الشيخ العنيد .
وفعلاً لم يتراجع هذا الشيخ العنيد عن قناعاته بضرورة ممارسة صلاحياته المكتسبة فعلى خلاف تعليمات البوللة رسم اسقفين جديدين الواحد لزاخو وهو كوركيس كوكا والآخر للملبار وهو مار يعقوب اوراها ورأت الدوائر الرومانية ان هذا التصرف مخالف للتعليمات وهكذا طلبت من البابا التدخل بسلطته العليا فيقول كلمته الفصل بخصوص ما يجري في بلاد الكلدان ، فأصدر ” رسالة عامة : وهي اعظم وثيقة تصدر عن قداسته موجهة الى المطارين والأكليروس والرهبان ولفيف المؤمنين الكلدان وكانت الرسالة مفتوحة ومترجمة الى اللغة العربية ,وزعت نسخ منها الى الأكليروس الكلداني والسرياني وعلى عامة الناس ، وهكذا كانت فئة ( البوللة ) تدعو الى التعقل والأصغاء الى تعليمات سيدنا البابا ، لكن كثير من الكلدان يصرخون منادين بالتخلص من التأثير اللاتيني والتمسك بالعادات الشرقية وهؤلاء عرفوا بـ (اليباسي : لكونهم محافطين على تقاليدهم اللغوية والطقسية لا يقبلون التغيير ) وكانوا يستندون الى دعم الدولة في ولاية الموصل والباب العالي في اسطنبول .
وهكذا كما مر فقد وجه البطريرك في الاول من آذار عام 1877 كتاباً بخط يده يعلن فيه موافقته وخضوعه لأوامر الكرسي وطاعته الكاملة للاب الأقدس . وقد انتشرت انباء خضوع البطريرك وقد صورها البعض بتأثير الآباء المرسلين في العراق بأنهم استطاعوا ان (يكسروا رأس الكلدان العنيدين ابتداءاً من بطريكهم ) هكذا ورد ص 41 وهكذا تحرك الحزب اليباسي بسرعة وبقوة وبجسارة ، وانتشرت المسألة كالنار في الهشيم ، وكان قوة السلطة الحكومية العثمانية متعاطفة مع هذا الحزب .
ما يجدر ذكره في هذا الكتاب هو ما آلت اليه حياة البطريرك الكلداني مار يوسف اودو إذ كان قد تجاوز الثمانين من عمره وقد انهكته الأتعاب واحتمل بصبر إهانات لحقت بشخصه وبإرادته وكرامته وتحمل الكثير وأملى وصيته على الحاضرين قائلاً : اريد ان اموت بالأيمان الكاثوليكي متحداً مع الكرسي الرسولي .. وإن مقاومتي للكرسي الرسولي لم تكن بنية العصيان لا بل رغبة بخير طائفتي ..
توفي يوم 29 آذار عام 1878 وحمل جثمانه الى دير السيدة في القوش ودفن بإكرام واحترام كبيرين وضريحه يزار الى اليوم من قبل المؤمنين .
في دير السيدة جرى انتخاب بطريرك جديد وهو مار ايليا عبو اليونان وكان مطران الجزيرة ، وقد اقتبل البراءة الشاهانية من قبل الباب العالي ووصلت القوش في 30 كانون الأول عام 1878 ويقول الكاتب ص 62 انه صار اقتبال البراءة احتفال عظيم وضرب بندقيات ( الألقوشيون كدها في مثل هذه المناسبة ) .
من الأحداث الأخرى المدونة في هذا الكتاب : سنة الليرة المشؤومة ، إذ امحلت الأرض وبخلت بثمارها وذلك من شتاء 1879 ـ 1880 فارتفعت الأسعار وقد وصل سعر وزنة الحنطة الى ليرة ذهبية فعرفت تلك السنة بسنة الليرة ، فانتشرت المجاعة ويكتب غبطة البطريرك ايليا عبو اليونان في 21 ـ 01 ـ 1880 :
الجوع في كل مكان والفقراء يتكاثرون ، الأيتام متروكون ، الدار البطريركية ملجأ يحتمي به الفقراء المعذبون من الجوع وهم يصرخون صراخاً يفتت الأكباد ويلين القلوب مهما قست ..
في تلك الظروف اسست شركة الرحمة غايتها جمع التبرعات لتوزيعها على مستحقيها من المعوزين وحسب سجلات خاصة وبعد ذلك اصبحت هذه الشركة تعرف باسم ” الجمعية الخيرية الكلدانية ” .
على نطاق الصراع المحتدم بين اصحاب البوللة والبردي ، او الندايي واليباسي ظل مستمراً بين المد والجزر والشعب الكلداني منقسم على نفسه ، وبعض المطارين والكهنة والعلمانيين مع هذا الجانب وآخرين مع الطرف الآخر . وأبرز من وقف في طرف الحزب اليباسي المعارض للبطريرك كان المطران ملوس العائد من الملبار ، وقد شيّع هذا الحزب بأن براءة سلطانية سوف تصدر قريباً باسم ملّوس بطريركاً . علماً ان هذا الحزب كان مدعوماً من قبل والي الموصل خفياً ، ولكن قبل صدور البراءة السلطانية كان يجب اختيار اسم لهذه الجماعة بدلاً من لفظة المنشقين ، فكان الأقتراح إطلاق لفظة ” كلدان قديم او كلدان شرقي ” او حزب ملّوس ، وكانت هذه الفئة اي اليباسي تدعي انها تمثل معظم الشعب المسيحي الكلداني وكانوا نشطاء في عملهم ، لكن مع ذلك لم يفلحوا في الحصول على البراءة السلطانية ، وكل فريق يدعي الأكثرية وامام هذا الأدعاء شكلت لجنة فيها اثنين اعضاء من كل طرف يرأسها ( مكتوبجي الولاية = مدير القلم ) لأحصاء الكلدان المنتمين الى كل طرف ، وقبل عيد الميلاد سنة 1877 اصدرت اللجنة هذه النتائج وهي : مجموع جماعة المطيعين ( البوللة) في الموصل وتلكيف = 19 كاهن و 1537 شخص ، وجماعة المخالفين ( اليباسي ) = 9 كهنة 1132 شخص ، لكن وزير المذاهب تحيز للمخالفين ودافع عن قضيتهم وادعى بأنهم الكلدان الحقيقيون وإن الوالي السابق تحيز الى جانب البطريرك .
وفي خضم هذه الدوامة توصل البطريرك الكلداني الى ضرورة معالجة المسألة بشكل جذري بين المؤيدين والمخالفين له ، وإنهم جميعاً ابناء شعب كلداني واحد ولا بد من حل المسألة جذرياً ، وهكذا كتب في نهاية 1888 الى الكردينال رئيس المجمع يطلب منه ان يسأل قداسة البابا لاون 13 ان يتنازل عن مقررات البوللة ويعيد للكلدان حقوقهم لوضع نهاية لتلك الصراعات ، وفعلاً تجاوب قداسة البابا وتنازل وابطل على الدوام البوللة وارجاع الأمور في انتخاب البطريرك الكلداني وغيرها الى ما قبل صدور ( البوللة ) . وجاء ص87 من الكتاب : وهنا نصل الى النهاية السعيدة بالمصالحة بين الحزبين المتناحرين اللذين عرفا بالموصل باسم الندايي واليباسي وبين المتكلمين بالسورث باسم ” بُللا وبردي ” ، الجدير بالذكر ان نظرة البابا لاون 13 كانت منفتحة جداً نحو الكنائس الشرقية وقد اصدر رسالة عامة عن كرامة الكنائس الشرقية ( Orientalium dignitas Ecclesiarum) والتي صدرت في 30 ـ 11 ـ 1894 فبنود هذه الرسالة تعيد للشرقيين كرامتهم وتأمر باحترام طقوسهم تقاليدهم .. وكانت هذه القرارات مفتاح لحل المشاكل العالقة بين الفريقين الكلدانيين المتخاصمين وجاءت هذه القرارات تلبية لرغبات الشعب الكلداني بالتمسك باسمه وتراثه وطقوسه .
في مسك الختام يقول الكاتب ص 105 :
لايجوز لنا دراسة التاريخ دراسة سطحية والأكتفاء بذكر الزلات اوصب اللعنات . إني ارى ازمة اليباسي هزت الكنيسة الكلدانية ، وأطلقت العفريت من القمقم فبحجة رفض البوللة دافع اليباسي عن هوية الكلدان وأصالتهم لأنهم منذ دخولهم في حضن الكنيسة الكاثوليكية اهملوا عادات شرقية وتقاليد محلية حميدة …
اقول : ان تفسير الحالة هذه التي تعود لتلك الفترة الزمنية ( اواخر القرن التاسع عشر ) يمكن ادراجها بمفاهيم اليوم على انها حركة او انتفاضة وطنية او قومية كلدانية مردها المحافظة على الأسم وعلى التاريخ والتراث واللغة والطقوس ، ويقول الكاتب ان الآباء كانوا يتذكرون اليباسي وكأنهم يتكلمون عن عن ملاحم بطولية عاشها اباؤهم بينما لم يكن ثمة من يفتخر بانتماء آبائه الى البوللة .
في ص107 من الكتاب ابيات من الزجل الشعبي لجماعة اليباسي والتي جاء فيها :
الردة :
كلدان لا تمهرون يطلع عليكم قانون
البوللة يا ما اصعبا عميت عيون الكتبا
كلدان لا تمهرون
قس يعقوب الحق دوابك والزبيلين اربابك
وحفو الكرش استادك وعلى المطاغب تجلسون
كلدان لا تمهرون
لما وصلو ا تلكيف جواعي وما لهم كيف
طلعوا يأخذون الحيف لحنقنقات+ يدقون
كلدان لا تمهرون
من قراءتي للكتاب المذكور تبين ما يعانيه البطريرك الكلداني يوسف اودو من تناقض المواقف إذ من ناحية يريد العمل بما آمن به اي الطاعة للمسيح ومحبة الله ومحبة الكنيسة الكاثوليكية ، كما انه كان يريد ان يؤمن على حقوق شعبه ورعيته وحقوق كنيسته التاريخية ، ولا ريب ان خلق مثل هذا التوازن يتطلب الحنكة والذكاء ، واليوم البطريكية الكلدانية الموقرة تحاول ان توازن بين واجباتها الكنسية وبين موقفها من الحقوق المشروعة للشعب الكلداني ولنا الثقة الكبيرة بأن تفلح البطريركية بهذا الجانب فالشعب الكلداني هو ملاذها الأول والأخير في الوطن العراقي وفي ارجاء المعمورة .
د. حبيب تومي اوسلو في 01 ـ 05 ـ 2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+ الحنقنقة ، هو عظم الكتف ، يتشائمون منه ولا يدخلونه مطابخهم
أحسنت وبارك الله فيك أخي العزيز
السيد لؤي فرنسيس المحترم، أؤيد الاخوة اعلاه واريد اضافة شيء الا وهو ان منطقة سهل نينوى التي يكثر فيها المسيحيين…
الأعزاء أودا و فرج اسمرو المحترمين نعزيكم بوفاة المرحومة المغفور لها شقيقتكم إلى الأخدار السماوية، أسكنها الله فسيح جناته الرحمة…
الراحة الابدية اعطها يا رب و نورك الدائم فليشرق عليها. الله يرحم خلتي مكو الانسانة المحبة طيبة القلب. مثواها الجنة…
Beautiful celebration Congratulations! May God bless Oscar and bless his parents and all the family and relatives