مثل حبات السكر، حتى وإن ذابت وأختفت فإنها تترك خلفها طعماً حلواً. هكذا هم الشهداء في رحيلهم، ولعل هذا الطعم الحلو هو الذي يمنحهم سـمواً خارقا يفوق الآخرين بسلطانه، فنبقى نتذكرهم ونعيد سرد قصصهم وذكرياتهم، ونمنحهم منزلة وكأن ليس من بعدهم بعدُ! نعم انهم يستحقونها، لأنهم قدموا شيئا كبيرا لقضيتهم، لإنسانيتهم ولرسالتهم، وهم بهذا ضمنوا تلك المنزلة والمحبة منّا نحن الشهود على الأيادي الأثيمة التي تجاوزت على أرواحهم الطاهرة.
***
من مواليد مدينة ألقوش ، محافظة نينوى عام ١٩٥٤ وفي المحلة التحتانية ( محلة اختيثة). درس الأبتدائية والمتوسطة والثانوية في مدارس مدينته، وبعد تخرجه التحق بكلية العلوم ، جامعة الموصل وتخرج من قسم الفيزياء عام بمعدل ومستوى متميز١٩٧٧، وكان تعينه الأول مدرسا لمادة الفيزياء في مدينة العمادية.
كانت اجواء العراق مشحونة وتنذر بالخطر القادم، فقد باشر النظام البعثي بالتهيئة لشن حملات التصفية ضد الشيوعيين او اي انسان يشك في ولائه، ورغم انها اخذت بعض الوقت لكن ملامحها كانت واضحة للعيان، والشهيد حكمت لم يكن استثناءا من المضايقات والملاحقات، ويبدو انه قرر مغادرة المدينة والألتحاق برفاقه في حركة الأنصار (الالتحاق بالجبل) و صادفت بفترة قليلة قبيل اشتعال الحرب العراقية الأيرانية المدمرة.
تتذكر تلك الأيام شقيقته سلطانة تومي ـ كريش وتقول: نعم كان الوقت ربما شهر ايلول من عام ١٩٨٠، وقال لي انه ذاهب الى العمادية، وكل ظني انه كان يهيأ نفسه للألتحاق بالقائد توما توماس.وبعد مرور فترة من الزمن لم نسمع اية اخبار عنهُ، مع احترامنا لمبدأ الصيانة وسرية العمل، لكن الكثير من الأنصار وأخبارهم كانت ترد لمدينتنا ألقوش، ولكن لا خبر عنه ابداً. في تلك الظروف بدأ القلق يساور العائلة، فأرسلنا رسالة للقائد توما توماس وطلبنا معرفة اخباره، لكن جاءنا الجواب مدمراً، إذ ذكر لنا (أبا جوزيف): بأن حكمت لم يصل الى قواعدنا! حينها اشتعلت كل الظنون والتوجسات، وصرنا ندور في دوامة الشك، وعشناها بكل آلامها وأحزانها وظنونها لأكثر من عشرين سنة، بين الشك واليقين، بين الحياة والموت، وكما يقول المثل : (ام القتيل تنام، ام المهدد بالقتل ما تنام)، ولم نعرف الحقيقة، او نسدل الستار على قضيته إلا بعد أن نشر الحزب الشيوعي قائمة بأسماء الشهداء التي حصل عليها من ملفات المخابرات ودوائر الأمن، وإذا بأخي حكمت واحدا منهم!
وتكمل السيدة سلطانة شقيقة الشهيد: في تلك اللحظات، لم اعرف كيف اداري ردة الفعل، فقد كانت اعصابنا قد استهلكت من كثرة المحن والأنتظار، استهلكت من الثمن الباهض الذي دفعناه، لا لجرم اقترفناه او لسرقة او لتفجير قمنا به، كان فقط جراء حمل افكار مغايرة لأفكار الحاكم، ولكم أن تتخيلوا حجم وهول هذه الجريمة.
تتنهد سلطانة شقيقة الراحل وتُكمل: كثيرة هي العوائل التي تحملت ظلم الأنظمة وارهابها، إن كان بالمضايقات او بالشهداء او بالتعذيب النفسي، وعائلتنا لم تكن استثناءا، لكني أشعر وبكل جوارحي عندما اسمع عن معاناة احدى العوائل التي قدمت قرابينا للوطن. في تلك الفترة اعتقلوا زوجي وضاعت أخباره، وسافر أخي وأنقطعت اخباره، فيما لم تنقطع مخابرات السلطة من استفزازنا كل يوم بدعوى التحقيق في مصيرهم، والأنذال يعرفون ذلك جيد، وهذا يكشف كم كانوا منحطين بأخلاقهم وقيمهم وثقافتهم. انعكست تلك الأجواء على كل افراد العائلة، والأكثر تأثرا كانت والدتي ( يازي نونا ) التي قضّت مضاجعها هذه الأخبار السيئة، وظلت تتلوى من الحزن والألم الذي اتى عليها في النهاية وهي لمّا تتجاوز (٥٤) عاما فقط، لم تهنأ بسنيها الأخيرة بل انها تجرعت كأس المرارة التي اسقاها البعث المجرم للشعب العراقي.
وتظيف السيدة سلطانة: تنحدر عائلتي من واقع فقير، وكان والداي يجهدون لتوفير المعيشة المعززة لنا ، وكانت والدتي تقول كلما أتى ذكر (الفقيد) حكمت: لقد جمعنا المبلغ بالكاد حتى يذهب للجامعة، بعد أن حرمت نفسها من كل شئ في سبيل اسعاد اخوتي وأخواتي، وللأسف فأنها لم تهنأ وتفرح طويلاً.
كان حكمت بالنسبة لي صديقاً أكثر من أخاً، وعندما التحق زوجي (الشهيد يوسف كَريش) بقوات الأنصار كان حكمت يعيد الكلام عليّ: لاسامح الله إذا حدث أي شئ ليوسف، فأنا الذي سأقوم بأعالة وتربية ابنائك، وها هم كلاهما رحلا وهم في عزّ الشباب. لقد كان شاباً وسيماً وهادئاً ومحباً للكل، ومحبوباً ايضاً. كانت طباعه كنزاً من الألق، أما شغفه بالفكر والثقافة والعلم فلم تكن لهما حدود، لقد كان ذكياً بإمتياز أما اختياره لفرع الفيزياء فلم يكن اعتباطاً، بل كان ناتج عمّا كان يجول في عقله من أفكار ومشاريع كان ممكناً أن تخدم بلده وربما العالم ولكن …..!
وعندما سألتها عن امنيتها للعراق تأملت سلطانة الأفق وقالت: العراق، هذا الوطن الجميل، ترابه يحتضن رفاة آبائي وأجدادي، يحتضن عظام زوجي وأخي في مكان ما من أرضه، امنياتي له أن يكون هذا الشعب وفياً لمعاناتنا وللشهداء، وفياً لمثلهم السامية وللأهداف التي استشهدوا من أجلها، لقد عاش ابنائنا حياتهم بالزهد والصدق والأمانة وتقبلوا سر الشهادة المقدس وأنا فخورة بهم وبمبادئهم السامية، وحتى وأن كانت الحياة وسياسة العراق غير منصفة لهم، لكن المستقبل حتما سيكون حليف زملائهم وأصدقائهم الذين يكملون المسيرة. لا محالة من ذلك، الأفكار السامية هي التي ستسمو على الطائفية والكره والبغضاء وهي الباقية للشعوب. أتمنى أن يرفل العراق والعراقيين بالأمن والأمان وأن تنتهي محنة النازحين والمبعدين ويعودوا الى ديارهم وقراهم ومزارعهم معززين مكرمين.
** شكري للغالي نبيل دمان لنشره مقالة عن الشهيد حكمت تومي في موقع ـ عنكاوة ـ في آب ٢٠٠٣ ضمنها الكثير من الذكريات والسيرة العطرة للشهيد، وإزدانت المقالة بالتعليقات الشجية والوافية والمكملة التي ابداها كل من الأساتذة حبيب تومي وعمانوئيل تومي. وللمزيد يمكنكم زيارة المقالة مرة اخرى.
http://www.ankawa.com/cgi-bin/ikonboard/topic.cgi?forum=14&topic=182
** الذكر الطيب والدائم للشهيد حكمت كيكا صادق تومي ورفاقه الأماجد
** المواساة لعائلته الكريمة والرحمة على والديه الأعزاء
** عهداً أن لا ننسى القتلة الأوغاد ، وحتى لا يكرروا جرائمهم، يجب أن لا يفلتوا من العقاب.
كمال يلدو
أيلول ٢٠١٥
أحسنت وبارك الله فيك أخي العزيز
السيد لؤي فرنسيس المحترم، أؤيد الاخوة اعلاه واريد اضافة شيء الا وهو ان منطقة سهل نينوى التي يكثر فيها المسيحيين…
الأعزاء أودا و فرج اسمرو المحترمين نعزيكم بوفاة المرحومة المغفور لها شقيقتكم إلى الأخدار السماوية، أسكنها الله فسيح جناته الرحمة…
الراحة الابدية اعطها يا رب و نورك الدائم فليشرق عليها. الله يرحم خلتي مكو الانسانة المحبة طيبة القلب. مثواها الجنة…
Beautiful celebration Congratulations! May God bless Oscar and bless his parents and all the family and relatives