“الحمد لله على السلامة”، عبارة تبادلها المسافرون فيما بينهم على مضض عندما حطت طائرة الأيرباص على مدرج مطار طرابلس الغرب بعد ظهر يوم 29/10/1999. كانت المضيفات ترددنها على مسامعهم وهم يهمون بمغادرتها. نقلتنا المركبات إلى مجمع المطار عند صالة استلام الأمتعة الشخصية. إنتظرنا حتى جاءنا الحزام الدائري بحقائبنا. حمّلتها على عربة وجدتها في الجوار، ثم توجهنا إلى قاعة “رقابة” الجوازات. تجمعنا بانتظار إشارة من أحد ضباط أمن المطار ليدلنا على ما يتوجب فعله لأننا، وببساطة، كنا نجهل ما إذا كانوا سيعاملوننا كعرب أم كأجانب، رغم أن الملصقات تقول صراحة أن هذا البلد هو بلد العرب جميعا!
في هذه الأثناء، بقيت أتمعن في أرضية القاعة الواسعة وجدرانها، وأراقب حركة ضباط أمن المطار وموظفيه، وأتفحص وجوه رفاق الرحلة الذين وفدوا من بلد واحد! كانت الأرضية (حدّث ولا حرج) مقززة، ولا تليق ببلد يقال عن إمكانياته المادية بأنها هائلة. كانت قيادة أمن المطار الراجلة، ورغم التباين في عدد (النجمات) على أكتاف الضباط ، غير منضبطة، بل غائبة وحاضرة في كل شنب.
وقف رفاق السفر قبالة أحد مكاتب “رقابة” الجوازات بشكل حضاري + لا حضاري ÷ 2، وكانت الحصيلة تراجعي وعائلتي إلى الخلف. قلت لنفسي: “لا ضير في التسابق بين الأساتذة، إذا كان المتسابق حريصا على إلقاء محاضرته مبكرا قبل غيره!”. لم تكن هذه بمشكلة، على أية حال، لأننا تعودنا في بلادنا على أن يكون التراكض إلى حافلات نقل الركاب ]والركوب عليها[ للأقوى!
وبينما كانت زوجتي منشغلة في الحديث إلى أطفالها، أخذتني الدهشة عندما وجدت أن ترجمة الشعارات القومية والوطنية المعلقة هنا وهناك قد وقعت أسيرة قانون نيوتن في الجاذبية اللغوية: على الصفات وليس غيرها، أن تسبق الأسماء، وكأن الترجمة شريعة الفاتيكان: كاثوليكية المذهب، لا تسمح بالطلاق أو تعدد الزيجات. ربما تناسى المترجم المسكين….
“العائلات في ذلك الطابور”… صوت بتر ملاحظتي إلى حين.
لم تكن في “ذلك الطابور” سوى ثلاث عائلات!!! ” أربع عائلات فقط على متن تلك الطائرة؟” تساءلت باستغراب. ” لكن لا يوجد بين الحشد من هو دون سن الأربعين!” على أية حال، ختم الضابط جوازات سفرنا وتوجهنا نحو الخارج. كان النسيم عليلا رغم تشبعه برطوبة عالية. إنتظرنا في العراء حتى الإنتهاء من ختم آخر جواز (ربما كان الرقم 138). كان الظلام قد حلّ تماما عندما جاءتنا مركبات محملة بهموم زمانها ومكانها…منهكة القوى! نادتنا بأبواقها لتقلنا إلى حيث لا ندري. سارت بنا وسارت في موكب (مهيب!) لرجالات العلم من دون أطفال يلوّحون لنا بأعلام بلادهم أو أعلامنا ابتهاجا بمقدم (المعلّم) على جانبي الطريق. “هكذا أحسن” قلت في نفسي “وبعيدا عن الأضواء التي تعمي البصائر …ولنترك السياسة والأبّهة والبروتوكولات للساسة!”
وبينما كان جميع من في حافلتي في حالة ترقب بسبب عدم توفر شروط المتانة والأمان في المركبة التي كانت تقلنا، تعطلت واحدة فتوزع ركابها على الأخريات. وكان ما كان من اختناق نتيجة الزحام وعدم صلاحية العادم. لم يبال أحد من أي من هذين الأمرين لأن ]المنفى[ علّمهم أن نفي النفي لا ينمّ إلا عن وفاء، وعليهم تقبل الواقع وكأنه ذات الإملاء.
وأخيرا وصلنا بحمد الله!
رصفت الحافلات أمام قلعة ذات بوابة عملاقة يتوسطها باب لدخول السابلة! نزل (محمود) من سيارته (البيكاب اليابانية)، وأوعز إلى سائقيها بالدخول إلى المبنى. لم يكن هنالك من استغراب أو شىء ملفت للنظر في الباحة الداخلية. ولكن الإستغراب بدأ عندما طلب منا الاستماع إلى ما سيقوله محمود لنا.
ظهر محمود (المغلوب على أمره) مخاطبا إيانا:
“أعذرونا أخوان…هذا قسم داخلي للطالبات في معهد رياضي…ستمكثون فيه الليلة، وسنلتقي صباح الغد في تمام الساعة الثامنة ليتم توزيعكم على أماكن عملكم. أما العائلات، فسنأخذها إلى مكان آخر”.
صعق الرجال الرجال لهذا الإستقبال! ولكن لم يبالوا كعادتهم، لأن الإرث ثقيل…لقد تدرب جميعهم على النوم الجماعي أرضا في قاعات ثكنات عسكرية كريهة، زوارها من الذباب والعقارب… توجهت الأغلبية (العزاب!)، أو هكذا فرضت عليهم مؤسساتهم التعليمية إجتهادا منها، إلى داخل المبنى بحثا عن سرير نظيف، بينما تسلل من كان شاطرا عبر فتحة في جدار مهدم ليجد طريقه إلى مسكن صديق أو قريب مغترب. أما نحن، فقد افترشنا الأرض بانتظار سيارة لتقلنا إلى حيث لا ندري.
جاءت ساعة الفرج قبل منتصف الليل بقليل، وشكوى الأطفال ما زالت…
“تفضلوا إلى (الكوستر) أخوان”…قالها محمود وقد خارت قواه من المتابعة، وإن كانت الابتسامة ما زالت مرتسمة على وجهه.
طافت بنا المركبة شوارع طرابلس الخالية من المارة دون أن نعلم أين سيستقر بنا المقام! توقف الكوستر في باحة بناية قديمة يفصلها عن الشارع العام طريق رملي طوله 150 مترا تقريبا، وعلى جانبه الأيمن كلاب تعالى نباحها إثر وصولنا. ولا اعلم إن كان في لغة الكلاب طقوس ومراسيم إحتفائية! كانت البناية قسم داخلي آخر تابع لمعهد رياضي، ولكن أصغر حجما وأكثر تخلفا عن سابقه.
ترجلنا من الحافلة، وإذا بمحمود يقول لأحد مساعديه: “وزعوا العائلات على الغرف واحضروا لهم عشاء وماء”… ثم غادر. أشار إلي المساعد، الذي نسيت اسمه، بالدخول إلى غرفة قريبة منه. دخلنا الغرفة على الفور لأن الأطفال قد أنهكهم التعب…يا للعجب! وجدناها خالية من كل شىء تماما. هرعت إلى الخارج على الفور لأناشد المساعد على تأمين مستلزمات المبيت.
“إطمئن يا أستاذ، سيأتيك الفرش حالا”…قالها بنبرة المغلوب على أمره هو الآخر وفعلا، جاءنا الفرش، الذي كنا نستحي أن نهب مثله إلى فقير أيام زمان في بلدنا…جاءت بعده الوسائد التي لم نكن نعلم كم من أعشاش القمل تقيم الأعراس فيها. مهما يكن من أمر، إفترشنا الأرض، وقلت لزوجتي: “ليكن ما يكن، والله كريم”… طرق أحدهم الباب، وإذا به يناولني علبا تحتوي على قطع من الدجاج المشوي على غرار (كنتاكي!). نهمنا كالأسود ونهضنا نهوض الكلاب، وإن لم يكن هنالك من ينافسنا أو يحسدنا على الوليمة! كل ما في الأمر، كان علي أن استيقظ باكرا لأرى ما يخبئه لنا القدر في التجمع المرتقب.
جاء الصباح بخيوط لم أكن الفتها من قبل. تناولنا الفطور في مطعم الطلبة على عجل…إمتعضت العائلات التي تعرفت على بعضها على عجل، ثم مضى كل في سبيله إلى مدن أخرى. بقيت وحيدا بانتظار من يقلني إلى حيث اللقاء المرتقب. لم يأت أحد…خرجت إلى الشارع العام، ونباح الكلاب يلاحقني. رفعت ذراعي عاليا كي أستقل سيارة أجرة… طلبت من سائقها أن يوصلني إلى المعهد الأول الذي لم أكن أعرف في أي صوب يقع .
عندما وصلت، وجدت أن حشد يوم أمس قد تقلص عدده نسبيا، بينما كان الباقون بانتظار من يخاطبهم. وبينما كان الجميع يتساءل عن المصير الذي ينتظرهم، بعد قضاء ليلة أشبه ما تكون بالعسكرية، تعالى صوت من بين المحتشدين مناديا:
“من حاسوب؟ أساتذة الحاسوب!”
تحركت مجموعة من الرؤوس باتجاه المنادي، الذي كان يلبس الزي الشعبي، وتجمعت حوله، ثم اختفت عن الأنظار بعد دقائق… وتلا ذلك نداء آخر:
“من لغة إنكليزية؟ أساتذة الإنكليزي!”
رفعت يدي، ثم نظرت حولي فلم أجد يدا أخرى مرفوعة. توجهت إلى صاحب الصوت،الذي كان هو الآخر بلباسه الشعبي، وألقيت عليه التحية، فبادلني بالمثل، ثم أردف:
– ماجستير، لو دكتوراه؟
– دكتوراه …
– هل من أساتذة آخرين بين المجموعة؟
– لا أعلم …
– إذن تفضل معي …
– أين؟
– إلى معهد (غ) …
– وأين يقع هذا المعهد؟
– في جنوب البلاد …
– هل يوجد عندكم هندسة كهربائية؟
– كلا، ولكن لماذا تسأل؟
– لأن إبنتي سنة ثانية كهرباء، ويجب أن تكمل دراستها …
– يمكن أن تسجلها في جامعة (ف)، وأن تسكن في قسم داخلي للطالبات.
– آسف، إنها غريبة في هذه البلاد، ويجب أن تكون مع العائلة…
تركني وهو مغتاظ جدا لأنه لم يجد ضالته! وراح ينادي: “إنكليزي! وينكم يا أساتذة الإنكليزي؟” ولكن لا حياة لمن ينادي. وجاء نداء آخر، بحثا عن عملة صعبة أخرى، ولكن أقل عسرا:
“لغة عربية! من إختصاصه العربية؟”
تحركت مجموعة من الرؤوس باتجاه المنادي (مدير لمعهد آخر بزيه الشعبي)… إلتفت حوله الأعناق… وتم الأتفاق، ثم اختفت عن الأنظار … وهكذا دواليك مع بقية التخصصات، سوى الكيمياء والزراعة وعلوم الحياة والتربية الرياضية، والتي ما كان لأصحابها، حتى اليوم الثالث، أي اعتراض على تدريس مواد بديلة!!!
بعد ساعتين تقريبا، وقد تقلص العدد، جاء نداء مماثل يطلب “إنكليزي! إنكليزي!”
رفعت يدي، ثم توجهت إليه. رحبّ بي، وقال على الفور:
– تعال معي.
– أين؟
– إلى معهد (ق)…
– وأين يقع هذا المعهد؟
– في الجنوب الغربي …
– أنا مسيحي. هل يوجد كنيسة في مدينتكم؟
– تعال معي، وسأبني لك كنيسة!
– ولكن لدي بنت في الهندسة الكهربائية، وعليها إكمال دراستها…
– لقد عقدت علي الأمر يا أستاذ، فمن أين أجد معلم لغة إنكليزية؟
– ستأتي طائرة أخرى غدا …
رجع مدير المعهد هذا، كسابقه، بخفي حنين من حيث أتى، ولكن ليس قبل أن قدم شكواه إلى اللجنة الموقرة، التي كان من بين أعضائها ممثل من بلادي حجز له مقعدا في إحدى الجامعات وهو غير مكترث سوى بوجبة الغداء التي لم ندع لها، ولو من باب المجاملة. لم يكن لي بدّ، سوى التذرع بحجج يستحيل وإياها شرائي على هذه الشاكلة، وكأننا في سوق للغنم! واعتبرت هذه المسرحية، كما اعتبرها غيري، مهزلة تاريخية، بل خيانة وإهانة لنا وللعلم ولبلادنا! إذ كان الجميع يتوقع أن يتم توزيعهم على الجامعات، وليس على المعاهد العليا. ولكن حصل الذي حصل!
انسحبت إلى الخلف عند الزملاء الذين لم (يشترهم) أحد! سألت أحدهم:
“كم تكلف أجرة العودة للشخص الواحد برّا؟ “
أجابني: “بحدود 100-120 دولارا”…
داعبت ما تبقى من نقود في جيبي، فوجدت أنني لا أملك سوى 550 دولارا! وهذا المبلغ لم يكن ليغطي نفقات سفر خمسة أشخاص عبر بلدين أو ثلاث، ناهيك عن مشقة الرحلة البرية مع العائلة. كنت على وشك أن ألعن حظي العاثر، ولكنني تذرعت بالرحمن ونعمة الصبر، فقلت في نفسي:
“ربما كانت هذه إرادة رب العالمين! لقد سبقني “أيوب” إلى أسوأ منها … سأخوض هذه التجربة، ولكن لن أتنازل عن قبول العمل في إحدى المدينتين الكبيرتين التي أوصى بهما زملائي قبل الرحيل”. ولذلك تمسكت بحجة “الهندسة الكهربائية” كملاذ وحيد ومنطقي.
كانت الساعة الرابعة عندما غادرت اللجنة التي طلبت منا الحضور في اليوم التالي … رجعت بنفس الطريقة، والبطن خاوية، إلى معهد المبيت … ورويت الأحداث لزوجتي وأطفالي!
تكرر المشهد في اليوم التالي، ولكن الذي قابلني صباحا كان حضريا ومتفهما لوضعي. قال بأنه سيعينني رئيسا للقسم، وأن الجامعة التي ستدرس بها ابنتي لا تبعد عن معهده سوى عشر كيلو مترات. اعتذرت منه لأن الطائرة الثانية المحملة بجنود العلم من نفس البلد كانت على وشك الوصول.
جاءني آخر، وبمواصفات أفضل، بعد الظهر. عرض علي رئاسة قسم والتدريس الإضافي في معهد قريب من معهده الذي أسماه بكلية تابعة إلى جامعة (ط). شكرته على هذا العرض، ولكنني اعتذرت لنفس السبب.
كانت الساعة الثانية ظهرا عندما طلبني رئيس اللجنة. دخلت إلى غرفته، وإذا به يعنفني:
“سنحيلك إلى لجنة تحقيقية ما لم ترض بالعروض المقدمة لك. إنك وقعت معنا على عقد”.
أجبته:”ضع نفسك في مكاني يا أستاذ. هل كنت تتخلى عن مستقبل ابنتك بهذه البساطة؟”
سكت، ثم رفع سماعة الهاتف، وقال لي: “إنتظرني في الخارج”.
إنتظرت حتى الرابعة بعد الظهر دون أية نتيجة، فقفلت راجعا إلى معهد المبيت، ورويت قصتي لزوجتي وأطفالي الذين ازدادوا قلقا.
تكرر المشهد في يوم (الشراء) الثالث! كان الجمع غفيرا لأن الطائرة الثانية كانت قد وصلت مساء أمس. التقيت بالزملاء الذين لم يحالفهم الحظ حتى تلك الساعة. كانوا يلعنون ويلعنون!!!!!!!
كان منتصف النهار قد حل عندما ظهر رئيس اللجنة من صومعته مبتسما:
“تعال يا دكتور … والله، إنك محظوظ! إنهم يحتاجونك في مدينة (ب)…لكن أطلعني على سير دراسة إبنتك … مع السلامة! تعال يا محمود…خذ الدكتور وعائلته فورا إلى المطار”.
أخذنا محمود إلى مكتب للخطوط الجوية. اشترى لنا تذاكر سفر، واعتذر عن توصيلنا إلى المطار بسبب انشغاله مع الوافدين الجدد. قال لي: “خذ تاكسي. المسالة بسيطة”.
قلت له: “ولكن ليس معي من العملة المحلية ما يكفي”.
أوقف سيارة أجرة …تحدث إلى سائقها، وأعطاه عشرة دنانير، ثم تحدث إلي بينما إنهمك السائق بنقل أمتعتنا من (بيكاب) محمود إلى سيارته: “يمكنك إرجاع النقود متى ما شئت… ربما بعد أن تشتري سيارة …مع السلامة!”
تعانقنا، ورحل كل منا إلى حال سبيله، وأنا ما زلت مدينا لهذا الرجل (الغلبان) إلى يوم القيامة!
أحسنت وبارك الله فيك أخي العزيز
السيد لؤي فرنسيس المحترم، أؤيد الاخوة اعلاه واريد اضافة شيء الا وهو ان منطقة سهل نينوى التي يكثر فيها المسيحيين…
الأعزاء أودا و فرج اسمرو المحترمين نعزيكم بوفاة المرحومة المغفور لها شقيقتكم إلى الأخدار السماوية، أسكنها الله فسيح جناته الرحمة…
الراحة الابدية اعطها يا رب و نورك الدائم فليشرق عليها. الله يرحم خلتي مكو الانسانة المحبة طيبة القلب. مثواها الجنة…
Beautiful celebration Congratulations! May God bless Oscar and bless his parents and all the family and relatives