إن كان المؤرخون قد اتفقوا على أن أقدم الممارسات البشرية لمجتمع متحضر هي تلك التي شهدها وادي الرافدين كما تفيدنا شريعة حمورابي ذات القوانين الواضحة التي سُنـّت في ضوء العادات والتقاليد قبل ميلاد المسيح بألفي وخمسمائة سنة، فإن القوانين العامة كانت حاضرة في حياة شعوب المنطقة قرونا طويلة قبل ذلك، إذ يرى المؤرخون اعتمادا على حقائق فلكية أن الوعي الحضاري ابتدأ مع تاريخ وثقافة الكلدان قبل 5000 سنة قبل الميلاد، إن لم يكن في الألف السادس كما يحدده الباحث (بارتون). ولكن تبقى شريعة حمورابي المنهجية خير دليل موثق نعتمد عليه في إلقاء الضوء على حضارة وثقافة ذلك الزمان. نجد في تلك القوانين نصوصا دستورية خاصة بالحقوق الشخصية تساوي بين الرجل والمرأة إلى حد ما. فعلى سبيل المثال، نفهم من هذه القوانين أن الرجل لا يحق له الاقتران بأكثر من واحدة، لكن القانون يجيز له أن يتصرف على هواه مع المحظيات والرقيق وفق ما يراه مناسبا وتحقيقا لمآربه. إذن هنالك ثلاث فئات من النساء: الزوجة والأمـَة (المحظية أو الخليلة) والرقيق. وبما أن غاية قانون الأحوال الشخصية تتعدى حدود إبرام عقد زواج بين طرفين لتشمل أمورا ذات صلة بالنزاعات الزوجية والملكية الفردية، فأن القانون هو المعني بتنظيم أحكام الزواج وما يترتب عليه من حقوق وواجبات. ويستند قانون الأحوال الشخصية، بطبيعة الحال، على موروث غني من العادات والتقاليد التي تناقلتها الأجيال وطورتها عبر قرون. ومن هذه التقاليد المتوارثة ما يسمى بالمهر والبائنة وهدايا الزواج.
يدفع العريس لعروسه ثمن الحصول عليها كجزء لا يتجزأ من المهر ، لكنه قد يحصل أيضا على مهر من زوجته. وعلاوة على ذلك، فأن والد العروس يقدم لها بائنة (هدية الأب، التي هي حصتها في ماله الخاص)، كما أن العريس يقدم لها هدية زواجهما. ويمكن للرجال تطليق زوجاتهم، ولكن يترتب عليهم دفع النفقة إذا ثبت أنهن لسن مذنبات. وهذا يسري على المرأة العاقر لأن الوظيفة الأساسية للزواج هي إنجاب الأطفال. وبالمقابل، فالمرأة التي تحمل طفلا من رجل ما، حتى لو كانت من الرقيق، لها حقها القانوني في مطالبة الرجل بالنفقة والأمن والأمان. كما يجوز للنساء تطليق أزواجهن إذا ما فشلوا في الأيفاء بمتطلبات الحياة الزوجية. نجد في المعابد نوعين من النساء اللائي نذرن أنفسهن لخدمة الكهنوت. يعتقد (مولر) أن جميعهن كاهنات، لكن الفئة الأولى تختار الكهنوت سنـّة للحياة دون تقديم أي عهد بالحفاظ على العذرية وتلبس ملابس نسائية، بينما تنتسب الفئة الثانية إلى عامة الشعب وتلبس ثيابا رجالية. ويروي لنا لوح من الألواح الفخارية التي عثر عليها في حفريات تل العمارنة، الذي يعود تاريخه إلى سنة 1500 قبل الميلاد، أن شجارا حصل بين إله وزوجته. يؤنبها على فعل ما، لكنها تحتج غاضبة وتطلب منه ألا يتدخل في شؤؤنها، فكانت لها الغلبة ولم ينبس ببنت شفة بعد ذلك الشجار.
تظهر قوانين حمورابي بجلاء أن المسائل الزوجية ظلت على ما هي عليه منذ 2500 سنة قبل المسيح ولحد اليوم، إذ كشفت لنا تنقيبات تل العمارنة بأن دفة قيادة الأمور العائلية كانت بيد الأم الكلدانية في الألفية الثالثة قبل الميلاد، ومن هنا جاءت تسمية “آلهة الدار” أو “ربة بيت” بحيث كان يمكنها طرد زوجها من الدار. إنقلبت المعادلة تحت تأثير الهجرات السامية فأصبح الرجل “رب الأسرة” والمسؤول عن الرعاية والوصاية، غير أن للأبناء حق الإرتباط بأمـَة، وليس الإقتران بها، دون موافقة الأب. ويفيدنا الشعر الشعبي أن المرأة من الرقيق كانت تتذمر إذا تجاهلها سيدها بسبب مخاوفه من ألاعيبها ولم يلب طلباتها.
كان من الجائز في مملكة بابل القديمة أن يطرد الزوج زوجته بمحض إرادته وأن يزودها بوثيقة طلاق. وتفيدنا الأوامر القضائية المتكررة التي تحيد عن الإنفصال أن ظاهرة الطلاق كانت شائعة وترتب عليها عجز المرأة وحرمانها من حقوقها رغم احتفاضها بكرامة أمومتها وسلطتها المنزلية ورعاية أطفالها. كان بإمكانها الزواج ثانية إذا تنكر لها زوجها وطلقها، ولكنها كانت تصول وتجول في الطرقات بحثا عن مكانة اجتماعية أو مغامرة تقودها إلى الفسق والفجور. وعندما عم الرخاء وازدهر النشاط الإجتماعي في وادي الفرات أصبح تعدد الزوجات أمرا مألوفا وأضحت النساء في عزلة نجم عنها فقدان الإستقلالية التي تمتعن بها فيما مضى من الزمان.
تميز نظام الحريم في مملكة الكلدان بخصوصيته، إذ تعيـّن على نساء الطبقة العليا ألا يظهرن بمعية أزواجهن أو أخوتهن، على النقيض مما كان عليه الحال في مصر. ويبدو أن رقعة هذا النظام اتسعت فشملت كلا من أوروبا وغرب آسيا في الأقل. كما نستنتج من العقود البابلية والآشورية المنسوبة إلى عصور الإزدهار أن حالات شراء الزوجات كانت نادرة، فقد عثر على عقد واحد تظهر البنود الواردة فيه طابعا تجاريا، على عكس ما كان معمول به في العصر البابلي القديم. كانت الزوجة هي التي تقدم مهر زواجها أو تـُحجب الهدايا عنها، وقد ينص عقد الزواج على ما سيهبه والدي العروس والعريس من هدايا صراحة. يظل المهر مسجلا بأسم الزوجة، لكن للزوج حق التصرف به. وفي حالة رفض الوالد زواج إبنه من الفتاة التي اختارها، تـُعد المرأة من الرقيق حينئذ. ويمكن للمرأة المتزوجة أن تدير عملا خاصا بها وتبرم عقودا دون تدخل زوجها بشؤون العمل بأي شكل من الأشكال. ولغرض تشجيع الزيجات بإمرأة واحدة، كان عقد الزواج ينص على دفع جزية محددة إذا ما اتخذ الرجل زوجة ثانية مستقبلا، والعقود العديدة التي عثر عليها تبين بجلاء مثل هذه الإجراء التجاري، خاصة فيما يتعلق بالرقيق والبغايا.
كان الاشوريون قساة قلوب ويتسمون بالعنف في الوقت الذي تحلى فيه البابليون بالشاعرية والجدية والمثابرة والذوق الفني، إذ يندر أن تلحظ جوا عائليا في المنحوتات الآشورية. نشاهد في أحد النقوش الآشورية ملكة بمعية ملك على مأدبة طعام، بينما تظهر النساء على المنقوشات الأخرى بصفة أسيرات. كما يصعب علينا أن نجد أثرا ملحوظا للجمال الأنثوي وسحره في النقوش الظاهرة على المباني الآشورية العامة. أما في بابل، فقد كانت صورة المرأة مختلفة تماما، إذ كان عليها أن تضاجع رجلا غريبا مرة في حياتها في معبد ملـّتا (فينوس) مقابل مبلغ من المال يودع في خزانة المعبد.
وجدت المرأة تحت وطأة القسوة والاستبداد أينما حل بها الدهر، ولأنها ظلت محرومة من حقوقها، فأنها سعت لقتل زوجها. وحسب شريعة حمورابي، تشنق المرأة التي قتلت زوجها أو تموت على الخازوق (ومعنى هذه الكلمةغير مفهوم لنا). ومع تزايد الثروة وظهور الطبقات الإجتماعية، تباينت الفروق الفردية بين الغني والفقير، إذ كان بمقدور المرأة الغنية ان تدافع عن ممتلكاتها ومصالحها الخاصة وتبرم عقودا وتقف على تنفيذها، وما إلى ذلك. ونجد البطل في ملحمة ﮔلـﮔامش وهو يخاطب شبح خلـّه ويسرد له تعاسة الموتى، فيقول: “لم يعد بمقدورك أن تضع المرأة التي أحببت ذات مرة بين أحضانك بعد اليوم، ولا أن تضرب المرأة التي كرهتها حينا”. ولذلك وجب علينا أن نتخذ من هذا القول برهانا لأعراف سائدة لدى الطبقات العليا من المجتمع. كانت نساء الطبقات الأدنى في أرض الكلدان، سواء كانت المراة زوجة شرعية أم لا، متحررات، إذ كن يجبن الطرقات بحرية دون حجاب، بينما كانت نساء الذوات يعشن في عزلة تامة إلا اللهم عندما يجدن من يرافقهن من باب الحيطة والحذر.
لم يعد خافيا على أحد حقيقة أن نساء الطبقات الفقيرة معرضات إلى المضايقات في كافة المجتمعات، لذلك وجب عليهن حماية أنفسهن. وبالمقابل، تنقلب عزلة النساء الثريات إلى وسام للتفوق وإرضاء للغرور. أما أساليب تدجين المرأة وترويضها وتدليلها، فقد أضحت قيودا مفروضة على حريتها واستقلالها، لأنه عندما لا يتعامل معها الرجل على قدم المساواة في المخاطر وتذليل صعاب الحياة تنقلب رعايته لها إلى الدونية والازدراء ولن يمنحها الكرامة والأحترام التي تستحقهما. وعندما يتنصلن من المسؤولية، يفقدن الحرية. ومع كل ما تقدم، فقد جرت العادة أن تقلد المرأة العادية نظيرتها في الطبقة العليا فيما يتعلق بالحجاب والملبس والتجمعات. وعندما نقارن درجة الأمان اللامحدود الذي كان يتمتع به الرجل مع سعي المرأة الحثيث إلى تسلق سلم الأناقة وتقليد أساليب من هن محسوبات على الطبقة الأرستقراطية، تعانق اهتمامات الرجال غرور النساء لتساير المألوف وتصل بالنساء إلى مستويات أدنى مما كن يتخيلن.
المصدر:
Sumner, William Graham (1919). “The Status of Women in Chaldea, Egypt, India, Judea, and Greece to the Time of Christ”. In: Albert Galloway Keller, ed. War and Other Essays. New Haven: Yale University Press.
المؤلف في سطور:
يعتبر البروفيسور وليم ﮔراهام سمنر (30/10/1840 – 12/4/1910) موسوعيا متبحرا في العلوم الإنسانية، خاصة في التأريخ الأمريكي وتأريخ الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم الأجناس وله مؤلفات غزيرة في شتى المجالات المعرفية. كما يعتبر سمنر أول من درس مادة علم الاجتماع في البلدان الناطقة بالإنـﮔليزية (سنة 1875)، وأول رئيس لقسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة ييل.
أحسنت وبارك الله فيك أخي العزيز
السيد لؤي فرنسيس المحترم، أؤيد الاخوة اعلاه واريد اضافة شيء الا وهو ان منطقة سهل نينوى التي يكثر فيها المسيحيين…
الأعزاء أودا و فرج اسمرو المحترمين نعزيكم بوفاة المرحومة المغفور لها شقيقتكم إلى الأخدار السماوية، أسكنها الله فسيح جناته الرحمة…
الراحة الابدية اعطها يا رب و نورك الدائم فليشرق عليها. الله يرحم خلتي مكو الانسانة المحبة طيبة القلب. مثواها الجنة…
Beautiful celebration Congratulations! May God bless Oscar and bless his parents and all the family and relatives