منذ انبلاج الكون وحتى انقضاء الدهر يبقى الحياة والموت حالهما حال الضياء والظلام , والخير والشر , في صراع دائم , تتعاقب الجولات ويتراكم الرصيد , لذاك او نقيضه , ربحا او خسارة . وفي الوقت الذي تعلن الحياة ساعة الشروق عن فوزها العظيم متمثلا في صوت طفل وليد , يشق العنان , ويعلن خروجه الى الحياة , يتمكن الموت , في هجومه المقابل , وتحت جنح الظلام من تحقيق ضربة غادرة , فيصيب في النفوس والقلوب مقتلا , ويترك انهر العيون تذرف بسخاء . انه الموت الزؤام , زائر ثقيل , لص بعد منتصف الليل , يقرع على النفوس الامنة , و لولا الايمان بمشيئة الخالق لما فتح له احد , فيختطف فريسته من بين الجموع , ويولي الادبار بسرعة الومض , منتشيا بمحصوله . واليوم يشاء القدر ان يخرج هذا اللص بصيد ثمين , واي صيد , انه المثلث الرحمة مارسيوريوس اسحق ساكا البرطلي رجل العلم والعمل الهمام , ماكنة الابداع , صاحب القلم الذهبي , وبطل المواعظ بالاجماع , والمتوًج وزيرا لخارجية الكنيسة السريانية على مدى عقود , استحقاقا وليس امتيازا .
يقينا انه قمة السمو وبحر التضحية ان يقرر انسان ما منذ نعومة اضفاره ان يهب حياته , كل حياته , من اجل قضية , واية قضية, تلك هي ان يحمل صليبه ويجول في الاصقاع مبشرا بكلمة الخلاص . لعقود طويلة اختار الطالب والشماس ثم الكاهن والراهب والاسقف والمطران مار سيوريوس اسحق ساكا اسمى المهن وانبلها , ان يمسح دموع الخطاة , وينادي للمأسورين بالاطلاق , ويدعو للسلام كما اوصى رب السلام . كم تألمت كثيرا عندما اتصلت بالراحل الكبير قبل اسبوعين , لاطمئن على صحته بعد سماعي عن انتكاسة حدثت له , وعن حادث في السيارة تعرض له في سوريا وهو في طريقه لتادية واجب كنسي عاهد الله ان يكون وفيا له من المبتدى وحتى المنتهى , فاذا بالراحل الكبير لايشكو لي ألما هنا او هناك في جسمه , بل يقول ان ألمه الكبير انه لم يعد قادرا على الكلام , وكانه يعلم علم اليقين انه بهذا قد فقد اسلحة الحب الشامل التي يمتلكها ويعتز بها , ذخيرته وكنزه في الحياة واساس وجوده فيها , حيث هو شفاه ادمنت النطق بكلمة الحياة , عزاء للمعزين , ويدا ممدودة , وقدما تخطو باستمرار , تنشد المشترك مع الاخر , يربح مع الرسول بولص على كل حال حال في الوقت الذي امتلئت نفسه زهوا وفخرا , لا غرورا وكبريائا , بمحبة الكنيسة الام . لقد قدًم لنا الراحل الكبير مثالا صارخا على انتفاء اسباب استمرارية الحياة الجسدية لكاهن الله مع عدم القدرة على مواكبة فعل الكرازة النبيل والطوفان في الاصقاع , حيث يبقى صوت صارخ يجول , يصنع خيرا , ويرشد الى طريق الرب .
برطلي لفًها الحزن على فراقك ايها الراعي الصالح وابنائك في الوطن وبلاد الغربة يتأسفون لرحيلك المفاجئ , فمن نعزٍي ومن يعزينا , انه جبران ينهض من القبر فيعيد على مسامعنا قوله ( هل يتعزًى كسير القلب بصاحب القلب الكسير ؟! , أم هل يعطي الفقير الجائع خبزه للجائع الفقير ؟! ) . نعم نعرف جميعا ان قضاء الله حق , وان الرب اعطى والرب اخذ , وله الحق في ان يسترد ما وهب , ومبارك اسم الرب الى الابد, لكن لنا الحق ايضا في الشعور بالحاجة لكي يكون نفس الراعي الكبير معنا في افراحنا واحزاننا , يبارك ايامنا ومناسباتنا وحياتنا.
ايها الحبر الجليل , ايها الراحل الكبير, كنت حقا امينا على القليل وسيقيمك يقينا على الكثير, جاهدت الجهاد الحسن فدخلت الى فرح سيدك . واجب علينا كلمة الرثاء لانك وغيرك كنتم وستبقون عنوان فخرنا وزهونا . انه شعور بالفخر والزهو الكبير عندما يدخل ابن برطلي في بلاد الغربة الى كنيسة ما , او يلتقي كائنا من كان ,ويُسأل من اين اتيت ؟ , فيجيب شامخا , من برطلي واليكم هذا فقط بعض من التاريخ الحديث , بلدة البطريرك يعقوب الثالث والمطران لوقا شعيا والعلامة واللاهوتي الجليل المطران اسحق ساكا شملنا الرب بصلواتهم وهم في خدوره العلوية فيقول لك السائل , نِعم البلدة و نِعم الاهل.
اللة يرحمة